ترجمة: عادل العامل ليس من المضجر بالضرورة أن تشاهد فيلماً بلغةٍ لا تفهمها. فأنت تركّز ما بوسعك على عناصر الفيلم الأخرى، الإيماءات، لغة الجسد، المشاهد الطبيعية، و الأشياء الإضافية. فالذي لا يفهم اللغة لا يشاهد بالضرورة الفيلم الخطأ وإنما يرى من الفيلم أكثر من غيره. ووضع هذه الخبرة المضافة في الكلمات الصحيحة هو فن ليس هناك من يتمكن منه أفضل من أمينة سيفجي أوزدَمر Emine Sevgi Ozdamar ، على حد قول هيرولد جاهنَر في هذا المقال.
لقد جاءت أمينة إلى ألمانيا من اسطنبول للمرة الأولى عامَ 1965 ولم تفهم شيئاً. وقد روت ذات مرة أن كلمتها الألمانية الأولى كانت "هولتستيل Haltestelle" (وتعني موقف الحافلة). وكانت تحفظها عن ظهر قلب كي تكون مطمئنة إلى أنها تصل إلى الشارع الصحيح في طريقها للعودة. وبالطبع لم ينفع ذلك: ففي برلين هناك أماكن كثيرة جداً تُدعى Haltestelle !وفي روايتها (جسر من القرن الذهبي) تحكي لنا بدلاً من هذا عن كلماتها الألمانية الأولى بأصواتها المشابهة لـ " شاك، شاك، إيي، كاك كاك ". فعندما كانت هي أو رفيقتها في السكن يذهبان لشراء بيض، فإنهما كانا يهزان أطرافهما السفلى صائحتين " كاك كاك " للبائعة! و هناك مسافة كبيرة بين هذه الألمانية وروايات أوزدمر. فهذه الكتب رائعة، لأنها تنقل سحر تعلّم لغة. وهي تكتب بالألمانية، اللغة التي لا تحتفظ بطفولةٍ بالنسبة لها، مقارنةً بالتركية، التي ما تزال تختزن القوة الساحرة للنعيم المبكر، التهويدات وكذلك الانتصار الأول لقول "أنا"، "أنا أريد". وبالمقارنة، فإن الحياة في برلين أعطتها الفرصة لأن تبدأ لغوياً بالكدّ وهي بالغة. وقد تعلمت اللغة الألمانية بطريقة غريبة، عن طريق حفظ عناوين الصحف المعلقة في الأكشاك عن ظهر قلب ــ من دون أن تفهم كلمةً منها، وترد بها على مَن يسألها بالألمانية أي سؤال. وهي تقر بأن أباها دفع رسوم دورة دراسية لها في معهد غوته، حيث تعلمت اللغة الألمانية بالطريقة الكلاسيكية. غير أن طريقة تعلمها الأصلية قد شحذت فهمها للّغة. فبالنسبة لها، الكلمات تمتلك جسداً، شكلاً، ليس فقط بمصطلح الحروف بل أيضاً ككلماتٍ منطوقة، وبوجهٍ خاص ككلمات لا تصل أبداً أولئك الذين توجَّه إليهم. وهي تصف، في (جسر من القرن الذهبي)، كيف كان رجالٌ أتراك يمشون عبر برلين الشتائية: "كان الأمر يبدو وكأنهم يمشون وراء كلماتٍ تُقال بصوتٍ عالٍ. ... كانوا يمشون هكذا مع كلماتهم، وإلى أشخاصٍ لم يكونوا يفهمونها، كان الرجال يبدون كأنهم أشخاص يمشون مع حمار أو دجاج عبر بلاد أخرى". وكذلك الحال في كتابها (نجوم غريبة تحدّق في الأرض) حيث أن الكلمات لا تُسمع فقط بل تُرى أيضاً. وهناك مقطع يصف ذكرى شتاء في شقّة مشتركة بلا تدفئة في برلين ، حيث كان النَّفَس يتكثّف في الهواء : "حين كنا نحن الاثنتين نقف في مدخلَي غرفتين متقابلتين ونتحدث الواحدة مع الأخرى في البرد، كنت أرى نفَسَين يتحدثان بعضهما إلى بعض في الممر. ... وحين كنا نجلس في المطبخ عند المائدة المستديرة الكبيرة ونأكل بينما نحن نتحدث الواحدة مع الأخرى، كنت أرى سبعة جداول من النَّفَس تتشكل فوق المائدة، مثل أشعة الضوء من سبعة مصابيح يدوية في ليلٍ حالك". إن اللغة والوحدة، بالنسبة لأمينة أوزدمر، تمضيان يداً بيد. فاللغة لا تبدّد الوحدة بل تلقيها في ضوءٍ قوي. فهي تلوّح بالكلمات هنا وهناك مثلما يوجّه الواحد ضوء مصباح باحثاً عن شخصٍ أو شيءٍ ما يمكن أن يُمسك بالضوء، وهي تركض وراء الكلمات كالرجال على شوارع مغطاة بالثلج، متوجعةً من مرض الحنين للوطن. وحين تتخذ الكلمات حياةً لها في مناقشةٍ، حين تؤدي كلمة إلى أخرى، كما تمضي العبارة الرائعة، فإن الكلمات هنا وهناك عند مائدة المطبخ تقوم آنذاك بتقطيع الهواء مثل مقصٍّ صار متوحشاً.إن الشيء الرائع في ما يتعلق بفن أوزدمر أنها تستمتع في عوالم اللغة غير المستقرة هذه. وهي يمكن أن تكون أي شيء إلا صانعة كلمات مترددة. فهي مقدامة، مستعدة لالتقاط كل تفاحة من شجرة المعرفة انطلاقاً من حب الاستطلاع المجرد و التحمّس للحياة.■ عن/ sighandsight
حين لا تُسمع الكلمات المُقالة فقط بل تُرى!
نشر في: 12 مارس, 2012: 08:03 م