سلوى جراح تحتفل بريطانيا هذا العام بالعيد المئوي الثاني لمولد واحد من أشهر روائيها في العصر الفكتوري تشارلز جون هافام ديكنز (1812-1870). كاتب تمتع بشهرة واسعة في حياته ولم يفقد شهرته على مر السنين. كانت رواياته تنشر على شكل مسلسل في الصحف، ولم يكن ديكنز يكمل الرواية ثم ينشرها بل كان يكتبها خلال نشرها ويترك القارئ في لحظة توتر خلال الحدث الدرامي ينتظر معرفة المزيد.
وكثيراً ما كان يغير في تفاصيل بعض مما يكتب ليرضي القراء. ورغم طفولة ديكنز البائسة حيث كان يعمل وهو طفل في الثانية عشرة من عمره لعشر ساعات يومياً في مكان وسخ تعيش فيه الفئران، في تغليف علب دهان الأحذية الأسود ولصق اسم المعمل على كل علبة يغلفها. كان ذلك خلال سني سجن أبيه، وبعد خروج والده من السجن أجبرته أمه على العودة للعمل الذي لم يحبه أبداً وحرمه من المدرسة. بل يقال إن إصرار والدته على عمله شكّل عناصر كثيرة في تعامله مع المرأة. فقد كانت تلك تجربة لم ينسها طوال حياته، تجربة جعلته يتخذ مواقف صارمة ضد عمالة الأطفال في عصر المكننة والثورة الصناعية وازدهار الإمبراطورية البريطانية، ليعود بعد سنين ويروي لقرائه بعضاً من تفاصيل حياته في روايته الشهيرة "دافيد كوبرفيلد". البريطانيون يحبون دكنز وتصويره للعصر الفكتوري، هجومه على الطبقة الغنية وتعاطفه مع الفقراء. يدرسونه في المدارس ويقرأونه باستمرار. في ذكرى ميلاده المئوية الثانية، أقيمت العديد من المعارض والندوات وقدمت البحوث عن حياته وأعماله وهناك حالياً معرض خاص به في (متحف لندن) الشهير سيستمر حتى أوائل الصيف القادم. كما اهتم التلفزيون البريطاني بعرض العديد من أعماله التي تناولها المخرجون السينمائيون عبر السنين، بدءاً بالمخرج البريطاني الشهير ديفيد لين (1908-1991) الذي قدم للسينما اثنتين من روايات دكينز "الآمال الكبيرة" عام 1946 و "أوليفر تويست" عام 1948، التي كانت أول رواية من روايات ديكنز تتحول إلى مسرحية غنائية. فقد قدمت المسرحية الغنائية "أوليفر" لأول مرة على مسارح لندن عام 1960، وتنقلت بعد ذلك بين مسارح العالم وبضمنها برودواي، وتضمنت أغاني يعرفها ويرددها الكبار والصغار. وحين تحولت المسرحية الغنائية إلى فيلم سينمائي من إخراج كارول ريد عام 1968، حصل الفيلم في العام التالي على ست جوائز أوسكار من أصل إحدى عشرة جائزة كان مرشحاً لنيلها. ويقال إن الممثليْن البريطانيين الشهيريْن بيتر سيلرز، وبيتر أوتول، رفضا تأدية دور "فيغان" اليهودي الذي يحتكر الأطفال للسرقة، وينافس "شايلوك" وليام شكسبير، في تلاعبه بمن حوله مع العلم أن شخصية "فيغان" في الرواية أكثر شراً من شخصية المسرحية الغنائية. كما رفضت إليزابيث تايلور دور الفتاة "نانسي" التي تحاول مساعدة "أوليفر تويست".في خضم كل الدراسات التي كتبت عن شارلز ديكنز، أثارتني فكرة، أن العديد من شخصيات ديكنز وعباراتها أصبحت جزءاً من وجدان البريطانيين ولغتهم وأحاديث يومهم العادية. لا شك بأن أشهر هذه الشخصيات هي شخصية "أبينيز سكرووج" من رواية ديكنز "أغنية عيد الميلاد"، رجل شديد البخل لا يرحم أحداً، يزوره ليلة عيد الميلاد "الكريسماس" شبح الميلاد ويأخذه ليرى حال الفقراء الذين يبخل عليهم بماله. سكرووج كلمة دخلت المعجم الإنكليزي وإن بحثت عن أصلها ستجد أنها مستوحاة من الشخصية التي أبدعها ديكنز. بالمناسبة هذه الرواية أيضاً أنتجت سينمائياً عدة مرات ثم تحولت إلى فيلم غنائي من بطولة الممثل البريطاني، البرت فيني عام 1970 ثم مسرحية غنائية على مسارح برودواي عام1988. المهم أن كلمة "سكرووج" يفهمها الجميع ويقولون ببساطة: "لا تكن سكرووج". حتى أن هناك شخصية من شخصيات الرسوم المتحركة لوالت ديزني تحمل اسم "سكرووج داك" وهو أحد أقرباء "دونالد داك" الشهير وبخيل إلى أقصى حد. المثال الآخر "أوليفر تويست"، طفل يتيم، ماتت أمه أثناء ولادته بعد أن هربت من بيت أبيها بحملها وفقدت الصلة بأسرتها ميسورة الحال. أوليفر ينشأ في ملجأ للأيتام وفي أحد الأيام أثناء تناول الطعام يحمل وعاءه ويقول للمسؤول: "أريد المزيد" فيصرخ الرجل البدين في وجهه: "المزيد؟" ويردد كل من حوله ذلك باستغراب شديد. هذه الحادثة دخلت وجدان الناس في بريطانيا، الكل يعرفها، فأن تقول لأي شخص يريد المزيد من الطعام أو الشراب ضاحكاً مقلداً لهجة مدير الملجأ (more?) ، سيجعل المقابل يغرق في الضحك. شخصيات كثيرة من روايات ديكنز دخلت القاموس المحكي للبريطانيين لعل أشهرها "ميس هافيشام" من رواية ديكنز "الآمال الكبيرة"، سيدة يصفها ديكنز بأنها عانس في الخمسين من عمرها مزيج من الهيكل العظمي والتمثال الشمعي. كانت على وشك الزواج وهجرها حبيبها يوم زفافها بعد أن سرق أموالها، حدث ذلك في الساعة التاسعة إلا ثلثاً، فأوق
فـي مـئـويـة ديـكـنـز..الشخصيـات الروائيـة فـي الوجـدان الشعبـي
نشر في: 12 مارس, 2012: 08:06 م