علي حسينأحالتني الصورة الأخيرة لفنان الشعب خليل شوقي إلى سنوات كان فيها هذا الفنان الكبير مل السمع والبصر، حيث امتدت تخوم دولته الإبداعية إلى كل أطياف المجتمع العراقي لتجده وقد استقر رمزاً يدين له العراقيون جميعا بالحب والامتنان.. انظر إلى صورة خليل شوقي،
فألمح في عينيه الغربة والحيرة .. فالرجل الذي عشق التجوال في شوارع بغداد، يسير اليوم وحيدا في شوارع لم يألفها غريبا ومغتربا وهو يفتش عن مجتمع دافئ ومكان أليف وزمن سوي يعترف بالإنسان والضحك وحرية اللسان وشقاوة الأصحاب وترف الأمسيات.. يسير "الخال" خليل شوقي - كما كنا نسميه نحن محبيه- في شوارع الغربة ولا يعرف هو ولا نحن عشاقه، أين سينتهي المطاف بفنان رفض الاستسلام وغرد خارج السرب.. ونلمح ملامح وجهه المحبب إلى النفس فنقرأ فيه رحلة التعب والمواجهة ممتزجة بأفراح ومسرات الماضي.. تعب في العينين وابتسامة يختلط فيها الحزن والشرود وبساطة ترتفع على التصنع فنغمض أعيننا ونحن نتخيل صوته الرنان ممتزجا بعبارات بغدادية عذبة: سليمة خاتون الدنيا تغيرت تركض ركض لازم واحد يلحك بيها.كأن الفنان الكبير قد اكتفى بأحلامه وتخفف من عقد المثقفين.. يقول الشيء المفيد ولا يكترث لزوبعة الأحكام..ينظر الخال خليل شوقي إلى العالم الذي يحمل برودة المنطق وحرارة القلب.. بين الحزن على حلم تهاوى والاحتجاج الصارخ على ما يكسر الحلم..فكان دائما يصر على أن يكون صحيحاً وان يقول صحيحاً وان يمثل صحيحاً ، أن يكون صورة لفنان الشعب ومرآة العقل والإرادة ، يدافع عن المبادئ النقية ويظل نقياً يقاتل في معركة الحرية دون أن يكترث للربح والخسارة..يمزج بين الحلم والحياة.. تكون الحياة مصدر الهامه ويكون الحلم صوت المستقبل الواعد. يحمل خليل شوقي سنواته التي تعدت الثمانين بعيدا في المنافي ترتجف اليد وتظل الذاكرة شابة تجول في شوارع بغداد تصطاد حكايات العراقيين في الأربعينيات وأحلامهم في الخمسينيات وقلقهم في الستينيات وضياعهم في السبعينيات وبؤسهم في الثمانينيات وتشردهم في التسعينيات ونرى بغداد كلما طلع علينا الخال خليل شوقي بقامته الفارعة من على شاشة التلفزيون ونشم عبقها حين يهمس مصطفى الدلال : "سليمة خاتون تره أني مقصر" ونحس نبضها في ملامح زاير ونرى تضاريسها في عيون عبد القادر بيك الماكرة، وهو يقول "لك رجب أتريد تقشمرني تالي عمري" .. فنشعر أننا إزاء شخصية حملت في جوانحها كل أفراح وأوجاع وأحزان ومسرات العراقيين. ***ينتمي خليل شوقي إلى طائفة من الممثلين الأثيرين على قلب المشاهد.. ممثل يتمتع بعبقرية لها طعم خاص يترك أثراً في النفس.. حين تشاهده تشعر وكأنك قرأت كتابا ممتعا.. فعند هذا الفنان قدرة عجيبة على تشرب الثقافة والحياة الكامنة خلف هذه الثقافة ، فعندما يقف الخال على خشبة المسرح يكون عقله وقلبه وأعصابه جزءاً من الأداء، فيعطي كل ما عنده في البروفة والعرض المسرحي فتراه عندما يبكي على المسرح هو الذي يبكي وعندما يضحك هو الذي يضحك وعندما يبدع الشخصية لم يكن يتوارى خلفها وإنما يقف بالند منها.. كتب ستانسلافسكي مرة :" إن على الممثل أن يكون مخرجا لدوره وهو لم يقصد بالطبع أن يضع الممثل مكان المخرج بل أراد التحدث عن أهمية المبادرة عند الممثل وعن رؤيته الواسعة ودرجة مهارته"، وهكذا كان خليل شوقي في معظم أدواره، ذكياً يعرف ما يفعل. انه لا يؤدي الدور وحسب بل يقوم بتفسيره والتعبير عن وجهة نظره تجاه الأشياء والشخصية التي يؤديها ويمكنك مشاهدته منفردا وحده، فتستمتع وكأنك تشاهد مسرحية بطلها ممثل واحد ولكن بنفس الوقت تراه يخضع بحكمة وهدوء للعمل المسرحي الكلي.. في المسرح والتلفزيون يتصرف خليل شوقي كأنه شخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة الخارجة من حضن الأحلام بسدارة بغدادية أو يشماغ جنوبي وابتسامة محببة إلى النفس فيخطف قلوب وإبصار المتفرجين وهو يؤكد: "لست متعلقاً بالشخصيات البغدادية فقط وإنما أنا متعلق بمجمل الشخصيات التي مثلتها لذلك أطلق عليها تسمية الشخصيات المنحوتة بطريقة زخرفية معبرة جدا "وهو هنا يعي جيدا ما قاله ستانسلافسكي من أن معايشة الدور تعني أن على الممثل في كل مرة وعند كل إعادة أن يحس ويفكر بصدق.. وهو يدرك أن المسرح فن للعب مثلما هو فن للمعايشة ولأجل اللعب يجب أن تكون موهوبا ولأجل المعايشة على المسرح يجب أن تمتلك الموهبة والثقافة وان تدرس وتفهم الكثير عن هذه المهنة وقوانينها. وقد اعتقد خليل شوقي أن الممثل يجب أن تتاح له طرق الخروج من القوالب التمثيلية الجاهزة وهو يدرك أن الممثل : " يجب أن ينظر إلى الحقيقة في السلوك الواقعي" ووفقا لتعاليم ستانسلافسكي التي يعشقها الخال خليل شوقي فإن العناصر السحرية للتمثيل يجب أن تجمع بين موهبة الممثل وقدرته على التخيل . لعلنا نتساءل أين يكمن سر وسحر خليل شوقي
صورة "الخال" خليل شوقي.. حين تنكر بغداد أبناءها
نشر في: 12 مارس, 2012: 08:09 م