لندن/ عدنان حسين أحمديندرج الفيلم الوثائقي (ذاكرة المكان) للمخرج بحر كاظم تحت لافتة الأفلام الوثائقية التي ترصد أوضاع الوطنيين العراقيين المُقتلعين من جذورهم، والمهجّرين قسراً من أوطانهم إلى المنافي العالمية في مشارق الأرض ومغاربها.
وقد وقع اختيار المخرج بحر كاظم على شخص وطني مرموق وهو الكاتب والصحفي سعود الناصري الذي لم يقتصر اهتمامه على الصحافة حسب، وإنما تعداها إلى التلحين والرسم، هذا إضافة إلى انغماسه في العمل السياسي فقد كان واحداً من أبرز قيادات الحزب الشيوعي العراقي في تنظيمات الخارج. يستهل المخرج فيلمه الوثائقي بأغنية (الويل ويلاه أصل/ الليل كله أصل) وهي من تلحين وغناء الفنان سعود الناصري. وجاء هذا الاستهلال لتعزيز تعددية المواهب لدى بطل الفيلم وشخصيته الرئيسية بامتياز، تلك الشخصية التي تعاني الغربة الموجعة والحنين المُمض المتواصل للأهل والأصدقاء.اعتمد المخرج بحر كاظم على تقنية (الفويس أوفر) كثيراً لتسليط الضوء على الشخصية الرئيسية التي لعبت دوراً فاعلاً في المشهد الثقافي والسياسي العراقي في الخارج. وقد ارتأى المخرج أن تكون انطلاقة الفيلم من منزل سعود الناصري في منطقة (غرين فورد) غربي لندن، وقد وصف السينارست هذا المنزل بـ(القَمرة المعلّقة) بين الأرض اللندنية وسمائها النائية حيث يبثّ فيها المُغترِبون أشواقهم ويغنّون (أحلامهم المعتَّقة) بفعل الغربة الطويلة واشتطاط المزار. كما ينفتح المشهد الداخلي للبيت على أثاث جميل، وصور حميمة، وآلة عود شرقية تذكِّرنا بأن سعود الناصري فنان وموسيقي حتى وإن انقطع عن التلحين لمدة ليست بالقصيرة. فحياته نسيج متشابك من الكلمات والنوتات الموسيقية، وأكثر من ذلك فإن طيبته الجارفة تغمر كل شيء في أرجاء هذا المنزل الوثير، والمفعم بالمشاعر والأحاسيس الداخلية الفيّاضة. يتنازع الناصري مكانان لا ثالث لهما، وهما الوطن والمنفى. وعلى الرغم من نأي المسافات إلاّ أن عينيه المغمضتين بقوة كانتا تريان أعمق مما تبوح به الصور التلفازية وهي تنقل المَشاهد الدموية المرعبة التي تنهش في أحشاء الوطن الذبيح. لم يعرف الناصري طوال غربته المكثّفة اليأس أو الإحباط أو الفتور لأن قطرات الضوء التي كانت تتساقط على جبينه كانت كفيلة بأن تبدِّد جيوش الظلام التي دهمت أرض الرافدين وأحالتها إلى بقعة منسيّة في ذلك الزمن اللقيط الذي تسيّد فيه الاستبداد، وهيمنت فيه الدكتاتورية.يطل الناصري بين أوانٍ وآخر لكي يقدِّم وجهات نظره عن الوضع المأسوي في العراق حيث يموت الناس كل يوم موتاً مجانياً لا مسوِّغ له، فلا غرابة أن يقول بأن الإنسان العراقي هو هدفهم الأول والأخير وهم يعملون جميعاً (من أجل أن يتعافى العراق وأن يُسعَد العراقي).كثيرون أولئك الذين يعرفون بأن سعود الناصري كان مريضاً، معتّل الكِلية إلاّ أنه كان يهتدي بنقطة الضوء المنبعثة من لؤلؤة الروح التي تمنحه نشوةً أبدية تحمل في طياتها سرّ عناده، ورغبته المحمومة في مواصلة طريق النضال حتى وإن كانت شاقة، معقدة، محفوفة بالمخاطر. يذكِّرنا الناصري على مدار الفيلم بأن العراق مُمتحَن وقد تحوّل إلى حقل من الألغام التي تتفجّر يومياً تحت أقدام الفقراء والمُعدمين، بينما ينهمك أصحاب الكراسي الوثيرة بلعبة التحاصص التي جزأت المشهد السياسي الرخو، لكنها لم تفلح في تجزئة وحدة الشعب المتماسك مثل البنيان المرصوص. الأغنية الوطنية تفي بغرضها وهي تُوصل رسالتها الصريحة إلى الوطن مخاطبة إياه: (لا تحزن وأولادك أحنه/ بوجه الريح نزيد إصرار). مثلما أشرنا آنفاً إلى أن الناصري لم ينقطع عن الفن كلياً، وها هو الآن يلحِّن أنشودة من كلمات الشاعر فلاح هاشم تتمحور حول الوضع في العراق وهي تصلح أن يؤديها كورس كبير وفرقة موسيقية مهيبة، أكثر مما تصلح للأداء الفردي نذكر منها: ( يا سومر يا أكد وبابل يا سفر المجد بآشور/ ما يرجع دولاب الدنيا ليكدام يظل يدور). ثمة عودة موغلة في القِدم يتعمّدها كاتبا السيناريو فلاح هاشم وبحر كاظم إلى وقع أقدام الناصري طفلاً على طرق البصرة وأرصفتها المختبئة تحت ظلال النخيل وهما يتساءلان تساؤل المستفهمين عن الشيء الذي ورثه سعود من أبيه الصحفي أيضاً عبد الرزاق عبد العزيز الناصري، هل هو وهج الصدق أم لوعة العشق؟ ويخلصان إلى القول بأنه المغترب الذي يبحث تحت سماوات المنافي عن نجمة عراقية تعيد له بعض هدوئه المفقود منذ زمن طويل.
سعود الناصري الذي خطفه الموت قبل أن يضع خدّه على خدّ العراق
نشر في: 14 مارس, 2012: 07:55 م