هاشم العقابيزرت عمّان قبل ثلاث سنوات من أجل هدف واحد، وهو أن التقي الصديق علي السوداني. كنت أراسله و أهاتفه لكن لم يسبق لي أن التقيته شخصيا. مع هذا كنا أصدقاء جدا. وعندما وصلت الفندق اكتفيت برمي حقائبي على السرير دون ان افتحها واتصلت به فاخبرني انه بانتظاري. أين؟ في بار عبد الله. بار واسمه "عبد الله يا علي"؟ نعم. انه فأل خير إذن.
وصلت وسط البلد ولم اتعب كثيرا في معرفة مكان البار. أرشدني احدهم من أول سؤال لي عن الطريق إليه. يبدو انه مشهور جدا. صعدت الدرج العالي فلمحني صاحبي أول ما دخلت. ركض السوداني صوبي فتبادلنا ما يتبادله العراقيون عادة من قبل وأخذ بالأحضان. وضع رأسه على كتفي وغنى: اهنا يمن جنّه وجنت جينه او وكفنه ابابكولف الجهل ما ينسي اشمالك نسيت احبابك غناها فأنصت له البار كله. ثم فاجأني وفاجأ السكارى كلهم حينما انتحب. جلسنا فعاد علي للأغنية مرة أخرى. فهمت انه تقصدها للترحيب بي. والسبب هو لأن والدي كان من بين الذين ساهموا في كتابتها. فيها ريحة الوالد.لا شك انها أغنية محبوبة أحبها اهل الريف والمدينة على السواء. وكانت من بين اكثر اغاني داخل حسن تميزا. ولعذوبتها غناها كثيرون من بعده وابدعوا في أدائها، خاصة حسين نعمة. ليست الأغنية جميلة بلحنها ولا بعذوبة كلماتها، فقط، بل وبوزنها الشعري (المجرشة) ذي الإيقاعات الراقصة. إيقاعات استهوت مظفر النواب فاختارها وزنا لرائعته:دك راسك بكاع العرس واصعد مراجف للدفأيام المزبّن كضن تكضن يا ايام اللفالغريب ان هذه الأغنية اخترع لها العراقيون كثيرا من القصص الخيالية. والحقيقة هي ان النص لم يكتب كأغنية بالأساس، بل كان "مساجلة" بين جمع من الشعراء. وفن "المساجلات" في الشعر الشعبي قد اشتهر في الخمسينيات وكاد ان ينتهي بعد تحرر القصيدة الشعبية من أطرها التقليدية بعد صدور ديوان "الريل وحمد". و "المساجلة" كانت تعني ان يكتب احدهم بيتا شعريا من الأبوذية أو الموال أو الدارمي ويطلب من الآخرين مجاراته او معارضته. مثال ذلك ان شاعرا كتب بالدارمي:هاك ابره هاك الخيط خويه ارد اكلفكامّـزك الـدلال شلّه اعله عرفك فأجابه أحدهم:هاك ابرتك والخيط كوم امشي عنيلو بيه اشل اجروح جنت اشل ذنّيوهكذا بدأت قصة "اهنا يمن جنه وجنت". مطلع شعري أثار قريحة الشعراء فرد عليه كثيرون ومن بينهم والدي، الذي جاء في احد ردوده:يا ترف عندي منشده بالله ارد انشدك عنهاايصير ثوب الحب كبل ما لابسه اويه اثيابك؟سألته ذات يوم: وهل لبست هذا الثوب يا أبي؟ لم يجبني بل اكتفى بان اغرورقت عيناه بالدمع. أخبرت علي السوداني بذلك، فدمعت عيناه هو الآخر. ويا لدموع العراقيين التي لا تنتهي!
سلاما ياعراق : اهنا يمن جنّه وجنت
نشر في: 21 مارس, 2012: 08:59 م