أحمد عبد الحسينلم يكن ينقصنا أمس سوى طائرات الإغاثة تلقي علينا بالطعام لتكون بغداد مخيّم لاجئين، الشوارع مقفرة مهجورة، والسائرون بوجوه متجهمة في الشوارع الخالية القذرة يفتشهم عساكر بوجوه أكثر اغبراراً وتجهماً، والجميع ناقم، لكنّ الجميع اعتاد الصمت، ففي دول العسكرتاريا والطغيان يكون المواطن الجيّد هو المواطن الصامت، تعلّمتْ الكثرة الكاثرة منا هذا الدرس منذ عقود،
والحاكمون اليوم يدركون أن العراقيين لُقّنوه حتى حفظوه، وهم يتصرفون بمقتضاه.حين قال غونتر غراس حكمته "المواطن الجيّد هو مَنْ يبقي فمه مفتوحاً" كان يريد استنهاض أمة ألمانية خرجتْ من استبداديين مختلفين في التوجّه العقائدي، مختلفين في الشدّة لكنهما قد يكونان متماثلين "تقريباً" في الآليات.واليوم في العراق كم نحن بحاجة لمزيد ممن يؤمن بحكمة غونتر غراس، نحن الخارجين من تسلّط، ونوشك أن ندخل في آخر، بحاجة إلى من يستطيع القول دون خوفٍ إن الحكومة التي تسلب الشارع من الناس متى ما شاءتْ وأن تميت حياتهم في أيّ وقت تريد، وأن ترهبهم بعساكرها تفتيشاً وقطع جسور وشوارع، وأن تحبسهم في أحيائهم كالمنبوذين ومع ذلك لا تستطيع تحقيق الأمن لهم ، هي حكومة فاشلين.الحكومة التي تجلس في خضرائها آمنة مطمئنة وتترك مواطنيها يمشون سيراً على الأقدام إلى وظائفهم، وتجعل المرضى يموتون في الطريق إلى المستشفيات، والنساء الحوامل يتوسلن بالعسكر أن يفتحوا لهنّ الطرق، هي حكومة يقودها أناس بلا ضمائر.الحكومة التي تعطّل الحياة في الدولة بكاملها لأن لديها "ضيوفاً" لم يأتوا بعدُ، حكومة لا تنقصها الحصافة والخبرة فحسب بل ينقصها الحسّ الإنسانيّ السليم.تعوّل حكومتنا كثيراً على مقارنتنا زمنهم بزمن صدام، فما أن تتكلم مع أحد أبواق السلطة حتى يجيبك: "لو كنت هنا في زمن صدام هل كنت ستعترض؟" وجوابي الأبديّ :" لم أكنْ لأعترض لأن صدام ديكتاتوريّ" وإذا صمتّ اليوم فسيكون إقراراً مني بديكتاتورية صاحبكم الذي يحمل علامة الميزان ذي الكفتين المتساويتين! فهل تريدون لصاحبكم هذا أن يصبح ديكتاتوراً؟ وهل تريدون أن يصبح المواطن العراقيّ الجيّد هو المواطن الصامت؟يحتجون بسلامة إجراءاتهم المرعبة بالقول إن الشعب صامت، وصمته علامة رضا، لكنّ سكنة الخضراء لا يعرفون الناس، لم يروا حجم ونوع الشتائم التي تكال لهم كل ساعة ليس من قبل المواطنين فقط بل من قبل أجهزة الأمن كذلك، ولا يعرفون أيضاً مزاج العراقيّ الذي يصبر طويلاً لكنه إذا غضب فسيكفر بمن يمتهن كرامته.حوّلوا بغداد إلى ثكنة عسكرية، إلى مخيم لاجئين. نعرف أنهم يكرهون بغداد لسبب طائفيّ حيناً وطبقيّ أحياناً، فهم لم ولن يكونوا على وفاق مع بغداد بما تمثله من عمق حضاريّ وتأريخيّ، ففي أعماق كلّ منهم شخصٌ بدائيّ يكره الحواضر والتمدّن ولذا يكرهون بغداد.لكنّ بغداد تهزأ بهم، سيذهبون وتبقى بغداد. أجساد سمينة وقلوب قاسية ستكون سماداً جيداً لخضرة بغداد المقبلة حين يصحو العراقيون من طائفيّة طال أمدها.
قرطاس: يكرهون بغداد!
نشر في: 23 مارس, 2012: 08:03 م