عبدالكريم يحيى الزيباريبداية نيسان من كلِّ عام، يتدافع المئات من محافظات العراق كافة أمام معرض الكتاب الدولي في أربيل، في الوقت الذي تعلو فيه صرخات الجاهلين بضرورة تقنين نفقات وزارة الثقافة، باعتبارها ترفاً، وصخبُ الساسة الفاشلين يصدعُ رؤوسنا، والعالم من حولنا غارقٌ في الدماء، يأتي معرض أربيل الدولي للكتاب ليغذِّي شوقنا إلى كلِّ ما هو جديد في عالم الكتب، ويتقاعس مئات الآلاف عن زيارة معرض الكتاب لأسباب شتى يتقدمها السبب الاقتصادي، لكن مَن هم زبائن المعرض؟
القراء بأصنافهم بدءاً بطالب الدراسات العليا، وانتهاءً بهاوٍ يبحث عن تسلية، لكن ما معنى أنْ يقرأ الإنسان كتاباً؟ أنْ يحصل على رؤية جديدة للعالم، فهم جديد، تصحيح بعض المعلومات الخاطئة بخصوص موضوع معين، معارف متنوعة قد تغير من سلوك القارئ تجاه تفاصيل الحياة اليومية، قد يحقق مناورة في التعامل مع الواقع، من خلال الخروج منه إلى واقع مختلف، وحياة مختلفة، عوالم مجهولة، بعيداً عما يفرضه الواقع من ضغوط وإرهاصات، ليس هناك شيء أجمل من الحصول على حياةٍ جديدة في متن كتاب، عمر الإنسان أقصر من أن يسمح بتضييعه في تفويت فرصة قراءة كتاب والاستمتاع بحياة جديدة. طيفُ الكتاب، طيفٌ يؤرِّقني، رغبة شديدة في فعل القراءة، شوقٌ لا يختلفُ عن الأشواق لذوات الأطواق، طيفُ القراءة تعرفه أوروبا في ثورتها الصناعية، في نهضتها الثقافية، تعرفه مكتبة المستنصرية، ومن قبلها مكتبة آشور بانيبال، يطارده طيف الفشل، باعتباره العمل الوحيد الذي لا يحتاجُ جهداً، ولهذا يبقى الأسهل ألا نقرأ، لكن حياتنا ستكون أفضل بالقراءة، من خلال تحسين علاقاتنا بتهجينها باستقبال الآخر المختلف، ذات ورشةٍ ثقافية: في مقعد الطائرة اللبنانية إلى دبي جلس بجواري مهندس أرجنتينيٌّ يعمل في شركة اتصالات في أربيل، ابتسمَ ابتسامةً عريضة حالما سألته عن بورخس، أريته كتاباً لبورخس كنتُ أحملهُ بيدي، أخرجَ من حقيبته الصغيرة كتاباً لبورخس باللغة الإسبانية، القراءة هي العامل المشترك بيننا، كان طيف بورخس يجمعنا، صارت العلاقة أكثر حميمية، القراءةُ طيفٌ يزور دول العالم كافة، تختلف اللغات، لكن الكتاب هو نفسه، يُترجم إلى لغات العالم كافة، ولهذا بدأ الوحي بالأمر الإلهي إقرأ، في قوله تعالى (إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الانْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) الأمرُ مُوَجَّهٌ إلى نبيٍّ أمِّي، لا يقرأ ولا يكتب، ولكنهُ يسمع، فكأنَّهُ يقرأ، ككثيرٍ من العلماء والشعراء منهم المعرِّي وطه حسين، هذه هي حكاية الحب العظيم بين الإنسان والقراءة، الحب الفطري الذي يكبر وينمِّي الشوق إلى اكتشاف عوالم مجهولة، أنْ نتوقف عن القراءة قبل نهاية الكتاب، بسبب ما يسميه صديقي نوزاد "صدمة الصفحات الأولى" حيث يشعر القارئ بالملل والضجر لأنَّهُ يقرأ بلا لذة، بلا فائدة، فيغلق الكتاب، القراءة خيار من بين خيارات عدة ، لكنَّهُ خيارٌ صعب، والأصعب منه الاستمرار في القراءة، هي خيارٌ مغرٍٍ يحملهُ طيفٌ مجهول يلاحقني منذ المرحلة الابتدائية، كنتُ أقرأ محاولاً تقليد الكبار من حولي، وكنتُ أزعجهم بأسئلتي، شعار قرأته ربما في مكتبة إقرأ في شارع الدواسة وسط الموصل، بعد ثلاثة عقود ما زال راسخاً في وجداني، شعار ليس بأقلَّ حكمةً من شعار معبد دلفي، شعار يحمله شوقٌ إلى المطلق إلى اللانهائي:" اشترِِ كتاباً جديداً، والبس قميصاً قديماً"مرات عدة كلفنا الأستاذ بكتابة إنشاء داخل الصف خلال أقل من ساعة حول عجز بيت المتنبي (وخيرُ جليسٍ في الزمان كتابُ) ما الفرق بين إنسان يقرأ باستمرار، وآخر لا يقرأ أبداً؟ ما الفرق بين من يقرأ كثيراً، ومن لا يقرأ إلا نادراً؟ كنتُ أطيرُ فرحاً أمام تجربةٍ كهذه، أنْ يضطر العقل الناشئ الصغير إلى أنْ يعصر نفسه وذاكرته بحثاً عن الكلمات.
طيف الكتاب
نشر في: 4 إبريل, 2012: 10:57 م