هاشم العقابيقد يلمس بعض القراء اني اكثرت من الكتابة عن الشعر الشعبي ومهرجاناته في اكثر من عمود. وللحقيقة اني كنت اتقصد ذلك لسببين. الأول هو ان تلك المهرجانات قد تحولت، بعد الحرب مع ايران، الى ظاهرة تحريضية وليس مجرد اماس شعرية تنعش الذائقة الشعبية السليمة وتحييها.
اما الثاني، فهو خطورة الشعر الشعبي كسلاح له تأثير كبير على عواطف الناس ومن ثم على عقولهم. انه سلاح ذو حدين كما الشعائر الدينية، كمثال، والتي يمكن ان تستخدم لاحياء الروح الوطنية وتنمية قيم التكافل الاجتماعي، او لبث الفرقة وتأجيج نار الطائفية بين ابناء الشعب الواحد. وربما هذا هو الذي دفع الشاعر جان دمو الى ان يحمّل الشعراء الشعبيين جزءا كبيرا من المصائب التي حلت بالعراق في عهد صدام. وهناك سبب آخر، قد يطول الحديث فيه يدفعني دائما للمرور على الشعر الشعبي في كتاباتي وهو حب العراقيين لهذا اللون من الشعر الذي تجذر بجيناتهم من ايام سومر عبر أشعار غزل البنات (الدارمي)، واغاني الامهات (الدللول) والابوذية التي اختص بها العراقيون دون غيرهم من الشعوب التي تجاورهم.ما دفعني لكتابة هذه المقدمة هو اني بالصدفة وجدت ريموت كنترول الستلايت يمر بي على مهرجان للشعر الشعبي نقلته قناة العراقية من مدينة الكوفة فتوقفت عنده. شباب تقاربت أغلب قصائدهم في مضامينها الحزينة مثلما تقاربت اعمارهم. ولو لو تكن صورهم امامي لقطعا حكمت على انهم شيوخ اصغرهم في الخمسين او اكثر. احدهم لم يخف ذلك في قصيدته التي تمنى بها ان يعجل عليه المشيب كي يخبره بما فعل به الشباب. وآخر لم تفارق الجروح ابيات قصيدته لتصطف مع جروح زملائه جدارا يحجب كل بارقة للفرح. كل هذا يممكن ان نجد له اكثر من مبرر. فشباب العراق لا اظن ان احدا يحسدهم على ما هم فيه من بؤس هذه الايام. فما يقولونه شعرا هو حتما ما يحسون به او يعيشونه او يرونه باعينهم. لقد سحرني شاب منهم بموهبته وجرأته حين ابتدأ قصيدته محزونا: "الصبح مات .. العشك مات". فياله من وطن قاحل، تجد فيه الصبح والعشق ميتين. ثم ساعدته موهبته المرهفة رغم صغر سنه ليكشف عن ان "المعقّدين" هم سر اطفاء الحياة وافراغ الحدائق من الحب: "عقدة عدهم من يشوفون الحدايق". لكن الذي حيرني هو لماذا هذا الصياح والصراخ اثناء قراءة قصائدهم؟ فمن يقول لحبيبته انه رسم لها وردة من نوع آخر على النجوم، علام يصيح عليها وكأنه يسمع سابع جار ان لم اقل سابع مدينة؟ظاهرة الصراخ والضجيج التي ترافق مهرجانات الشعر لا يمكن ان اجد لها تفسيرا غير انها من رواسب الخراب التي عمت الشعر الشعبي في زمن الحروب والحصار المر، وتركت ندوبها في حناجر وارواح اجيال لم تكن قد عاشت الحرب في ايامها. فما طال هذا الشعر في ايام التطبيل من تشويه لم يقف عند مضمون القصائد بل تعداه، ليصل الى طريقة الإلقاء وما يرلفقها من حركات جسدية.وفي تقديري ان الخراب الذي وصل الى طريقة الإلقاء لا يقل خطرا عن ذلك الذي عم مضامين القصيدة وتسخيرها الى تمجيد الطغيان وقيم العدوانية والاقتتال، ان لم يكن اشد منه. فماذا بقى من جمال القصائد ان كان من يستمع لها يضطر الى صم آذانه خوفا من الصمم؟
سلاما ياعراق : الصبح مات .. العشك مات
نشر في: 7 إبريل, 2012: 08:56 م