احمد المهناحكمة "رب ضارة نافعة" خالدة. خالدة بحق. وكل من عاش على هذه البسيطة لابد ان يكون قد اختبرها. ولكن الضارة النافعة تأتي أحيانا دون تدخل الإرادة فيها. وتأتي أحيانا أخرى نتاج تدخل الإرادة.
والإرث أشهر ضارة نافعة تحدث للإنسان من دون تدخله فيها. فموت الأب حادث محزن كل الحزن، ومضرة لاشك فيها، خاصة اذا كان قد أدى دوره مع أسرته كما يجب. ولكن نفعها لا ينكر اذا كان الإرث "يسوى".وكان المعماري رفعت الجادرجي ينكر على البيت البغدادي وجود غرفة معزولة فيه هي غرفة الضيوف. فهي مهملة، أثاثها مغطى، لا تستخدم الا في مناسبة وحيدة وقد تكون نادرة، عند زيارة الضيوف. وبرأيه فإن كل جزء من البيت يجب أن يكون له وظيفة دائمة، لا عابرة، وأن يكون دائما في الإنذار لخدمة الحياة البيتية.وخلافا لذلك كانت عادة الإسرة هي التكوم في "الهول"، وترك غرفة الضيوف وكأنها غير موجودة، الى أن يأتي "الخطار". ولكن في وقت ما من عام 1959 إختل الأمن في بغداد، وظهر المهداوي على الشاشة الصغيرة يوميا في محكمته الشهيرة. ودفع اختلال الأمن الرجال الى قضاء وقت أطول من المعتاد في المنازل. كما أدت محاكمات المهداوي المثيرة الى نفس النتيجة.وقضت دواعي انفاق الرجال الليالي في المنازل بالحاجة الى استخدام غرفة الضيوف استخداما دائما، فالكبار يشاهدون المهداوي فيها، والأصغر سنا أو ذوو الاهتمامات المختلفة في الإسرة "تحرروا" في الهول. وبذلك اكتسبت غرفة الضيوف والأسرة منفعة من مضرتي الخوف والمهداوي.والحكمة اشتغلت هنا بسبب ظروف خارجية لا دخل لإرادة الأسر فيها.السجن مع الأشغال الشاقة أربعة اعوام في صقيع سيبيريا لدوستويفسكي مثل من الجانب الآخر. فهو مضرة، واي مضرة، حولها الروائي العظيم بإرادته الى منفعة، وأي منفعة. روايته الرائعة (ذكريات من منزل الأموات) ليست وحدها حصيلة تلك "المضرة". لقد حصد الى جانبها كثرة من المنافع ، أهمها نفاذ معرفته الى قلب روسيا، الى "المجتمع العميق". لقد جعل من سنواته الاربع، بين طغمة كريهة من اللصوص والقتلة والنصابين، الفترة الأكثر جدوى وفائدة في حياته. وكان في أعماقه سعيدا بتلك "المضرة". المأساة بكل معنى الكلمة.ولعل اكبر أفعال الإرادة عبر العصور في تحويل المضرة الى منفعة، أو في الحقيقة كارثة التاريخ الى غنيمة التاريخ، هو رد فعل اليابان على ضرب هيروشيما وناغازاكي بالسلاح الذري. انهم لم يفكروا بالإنتقام ردا على هذه الجريمة الشنعاء. ولكنهم تساءلوا عن قسطهم من المسؤولية في التسبب لأنفسهم بهذه الكارثة الكبرى، وجدوا في السؤال، ووجدوا الجواب، واصبح ذلك الجواب أحد أسباب ما سيعرف دائما ب"المعجزة اليابانية".ولعل منع التجول الليلي الإجباري، ومنع التجول النهاري الطوعي تجنبا لمكاره العنف وأزمة المرور، يساعدان في تطوير منازلنا وتقوية حياتنا البيتية "الضعيفة" على رأي علي الوردي. ان "البيت العراقي بوجه عام مهمل وليس فيه الكثير من الأناقة ووسائل الراحة والبهجة". وقد تحمل هذه العشرة الإلزامية للمنازل بوادر انقلاب تمناه الوردي في وضع البيت العراقي: ديكور وعناية وعمليات تجميل ونظافة وتعطير. فتكون الغمة سببا في البهجة. والحي يشتري منفعة من المضرة.
أحاديث شفوية: "فرصة" البيت العراقي!
نشر في: 11 إبريل, 2012: 10:40 م