ماجد موجدلا يوجد في مجتمعنا ما يسمى (النظام العام) على وفق معايير محددة يخضع الجميع لأحكامه ويضمن للجميع حريتهم الشخصية دون أن يكون هناك تلويح بعقاب عنفي، ما متوفر هو معايير خاصة عادة وغالبا ما تفرز العشوائية والفوضى، معايير متشابكة لا دراية لها بما يتطلبه العقل المحض الذي تفيد تكوينه واستمراريته تطبيقاتٌ على العلل والأسباب ومن ثم النتائج، وأية نتائج تأتي بعد كشف العلل، لا تشبع من النهم في إطلاق الأسئلة، أي لا تنتهي إلى حالة من التوقف بل هي دائما في تحديث وتطور مستمرين حتى تبلغ الآراء المختلفة وجهة الصالح العام أو النظام العام الذي هو بالمحصلة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يغفل الصالح الخاص.
مجتمعنا قائم على فرضيات تمتاح مصداقيتها من أمثولات أشخاص مهيمنين على الخط العريض للتاريخ وحسب نيتشه فإن الخط العريض للتاريخ هو خلاصة فلكلورية للماضي وهو هوس طالما جانب حقائق منتظمة ومنظمة للحياة أو كما يقول فوكو "إن أولئك المبهورين بتلك الفرضيات إنما يدحضون العقل بحجة وجود تكوينات مقدسة تواترت عن أناس، لم يثبت أحد من انهم لم يكونوا مصابين بأمراض عقلية ونفسية". مجتمعنا اليوم - وهو مثلما كان في أزمانه الماضية - خاضع لسياسة يتسق وينتمي صانعوها إلى تلك الفرضيات، شكّلها أناس منذ قرون عديدة، فرضيات قائمة على التهويم وسحر التخيل ومحادثة الأشباح وجعل رؤيا في منام حكماُ وواجبا، فرضيات لم يكن فيها أي حيز لسؤال العقل، بل أن أي سؤال للعقل يعد بدعة وكفراً وأن حامل هذا العقل المتسائل هو ابن الشيطان وربيبه، الإجازة الشرعية الوحيدة التي منحت للعقل أن يتبين ويسأل في إطار تلك الفرضيات، أي أنه يمكن له وضع أسئلة لأجل تبيان وصف تلك الفرضيات بحذر وبيان أهمية أجزائها ووسائل استعمالها بمهابة التقديس. على وفق هذه الأسئلة الغفل انشق الموقنون بفرضياتهم التاريخية الفلكلورية المتخيلة، وعلى الرغم من أن تباين الآراء بينهم قد أدى إلى حروب طاحنة على مرّ التاريخ إلا أنهم يتصورون أن وصولهم إلى أرض تتباين فيها آراؤهم بشأن تلك الفرضيات دون تناحر وتقاتل هو إنجاز كبير وهو مثال يريدون أن يتشبهوا به مع أولئك المتباينين حول الأفكار العلمية العظيمة نتاج العقل المحض الذي صنع نظاما عاما يعرف الأفراد في إطاره الواجبات والحقوق. العالم الذي يشتغل على مبدأ العلة والسبب والنتيجة ينظر اليوم إلى المجتمعات التي حتى الآن تمتاح من التاريخ ـ جانبه العشوائي المتخيل ـ بيقينية من يمتاح من قوانين علمية صارمة، على أنها مجتمعات خارجة على النظام العام الذي صنعه العقل المحض والذي بموجبه يمنح كل إنسان حريته حين يستعمل عقله الخاص وإرادته الخالصة.. وعلى وفق ذلك يرى العالم انه لا بد من إيقاف أو محاسبة أو تأهيل كل شخص أو مجتمع يخرق النظام العام. لننظر إلى مجتمعنا منذ أول لحظة تكوينه في سياق الأمر والنهي الدوغمائي وإلى الآن وهو يخضع لفرضيات ذات الرداء الهائم بخيالات توجب على الناس تصديقها وعلى أنها الحق المقدس وترفض أية تجارب للعقل ومنطق العلم وقوانينه فهل سنرى سوى هلوسات في كل أنساقه الأخلاقية والثقافية والسياسية؟ عدوى تواترت من المؤمنين بأن عقل الإنسان عاجز عن إدراك أية حقيقة وليس من حقه أن يفكر بوجوده ويسأل عنه، بل عليه أن يؤمن بأولئك الذين وضعوا له طريقا واحدة هي طريق (الحق) وكل سادن من سدنة هذه الفكرة المخبولة يرسم الطريق الواحدة على هواه حتى صارت فتنة بين الناس، فتّت أواصرهم وأرحامهم وعقولهم، ويوما بعد آخر يتأكد العقل الإنساني الحر إنما كان أغلب صناع الخط العريض للتاريخ هم أناس ليسوا على قيد العقل بشيء وليس ثمة وصفة لمن يرى في التاريخ مثابة يهتدي بها، أجدى من هاتين العبارتين لنيتشة وهو يقول: لم يعد التاريخ إلا عبارة عن تظاهرة عصابية مرضية. ويقول أيضا: إن المذاق المهووس للأشياء العتيقة يحاصر الإنسان برائحة العفونة.
ومازالت تحاصرنا!
نشر في: 13 إبريل, 2012: 07:34 م