 احمد المهناالحوار وسيلة للوصول الى غاية. والغاية هي فهم أفضل، حل مشكلة، تطوير معنى، تحسين مبنى، تنمية إحساس، تربية ذوق. في كل ميدان من ميادين الفكر والعمل لا تتعدى الغاية من الحوار أكثر من هذه الأهداف. وبما أن هذه الأهداف تمثل بالجملة المسعى البشري لتقليل المعاناة، وتحسين الحياة، وفتح آفاق جديدة، وتحقيق قيم الحق والخير والجمال، فإن الحوار يكتسب طابع الضرورة، لأنه الأداة الوحيدة التي تمكن الإنسان من تحقيق هذه الغايات والقيم.
 احدى الحاجات الكبرى للناس هي معرفة من أين جاؤوا والى اين يريدون الوصول. الفلسفات والأديان والعلوم تقدم أجوبة لبناء هذه المعرفة. وهي أجوبة مختلفة ومتعارضة. ان البشر يتفقون على أهمية هذه المعرفة. ولكنهم يختلفون، ويتعارضون، في ماهية هذه المعرفة، وفي وسائلها وغاياتها. ومن هذا الاختلاف والتعارض، سواء في موضوع هذه المعرفة خصوصا، أو بقية المعارف عموما، ولدت مكتبة العقل البشري، ونمت وتوسعت. وهذا التوسع لانهائي، لأنه لا يتوقف. وهو لا يتوقف لأنه حوار، وحوار دائم.يدخل الحوار في كل نظر وعمل البشر. ولا شيء يفرق بين الانسان وبين الحيوان، تفريقا حاسما، كالحوار. فالحيوان محكوم بقوانين فيزيائية هي التي تقود سلوكه وتقرر مصيره. إنه محكوم بالضرورة وحدها. والمقدار الذي يخرج به الإنسان من هذه الضرورة، هو ما يصنع أختلافه عن الحيوان، هو ما يجعل منه كائنا متفردا بالمسؤولية عن سلوكه وبالسيادة على مصيره.وهذا المقدار المختلف عن "الضرورة" هو ما نسميه "الحرية". وأهم مضامين هذه الحرية يتجسد بالتنمية العقلية التي شهدها تاريخ الإنسان. وأساس هذه التنمية هو الحوار. افلاطون نتاج الحوار مع سقراط. ارسطو نتاج الحوار مع افلاطون وسقراط. وكل جديد في الفلسفات والأديان والعلوم هو إعادة بناء مختلفة بأحجار أو مواد قديمة. لا شيء يأتي من لاشيء. وكل شيء يأتي من حوار مع شيء سابق.وأكبر عقل "يحاور" أصغر عقل، من حيث يدري الأخير أو لا يدري. انني أعرف حقي في الإجازة من العمل. وأحصل عليه من دون نزاع. واذا اقتضى حصولي عليه النزاع فسأفعل. وسأناله بقوة القانون. من يسر لي ذلك؟ انه "التقدم" الذي أسهم في صنعه الحوار بين أفضل العقول، والحوار بين مختلف تجارب العمل، وصولا لاكتشاف أكثرها جدوى. ان "حق الإجازة" مثل على نوع من الحوار بين العبقرية والإعتيادية. نتائج هذا الحوار هي تمتع الناس العاديين بثمار العباقرة. كلاهما أبناء جنس واحد، وعالم واحد، وكلاهما شريكان في التطلع الى ان يكون هذا الجنس أرقى، وهذا العالم أفضل. و"الأرقى" و"الأفضل" قد يتعارضان. هما كذلك وفقا لهذا المنظور. وهما "الأحط" و"الأسوأ" بمنظور آخر.هل هناك مقياس نحتكم اليه في تمييز الأفضل عن الأسوأ؟نعم. انه مبدأ الحوار. أنا أحاور إذن أنا انسان.ان خروج الفرد أو الجماعة عن هذا المبدأ هو أخطر انحراف عن قدر الإنسان. إنه الخروج من الحرية الى الإستبداد. في الإستبداد وحده يتوقف الحوار. وعندها تنعدم قيمة الإنسان، وتضيع بوصلته، ويجد نفسه أسير الموجات العاتية العمياء. ان إلغاء الحوار هو إلغاء الإنسان نفسه. وهذه هي الجريمة الكبرى، جريمة تحويل الناس الى وحوش. والوحوش تفترس ولا تحاور.