عادل كامليجدد رحيل محمود صبري، مسيرته برمتها، إن لم اقل: ميلاده. وهذه ليست مفارقة، بل مناسبة لاستعادة رؤيته ـ وتطبيقاتها، منذ حفر في ذاكرة الإبداع العراقي أصول تجربته الرائدة، ودلالاتها. فهو القطب المكمل، وليس النقيض لجيل أدرك كم هي توازنات الحقب، والمفاهيم، والأساليب، لن تحقق أصولها من غير ريادات، كريادة جواد سليم، والدروبي،
وفائق حسن، إلى جانب مهارة محمود صبري، في اغناء مفهوم التجريب، في تنوعه، وتعدديته، وليس في انغلاقه. فعقد الخمسينيات، في العراق، الذي اقترن بزمنه الريادي، شهد ولادة تدشينات فنية تحدث للمرة الأولى؛ تجارب شابة، ولكن بتجريبية أهلها أن تحافظ على ديمومتها. فبعد تجارب الرعيل الأول، المولود في الربع الأخير من القرن 19، والذي تلقى تدريباته غير الاحترافية، ضمن دراساتهم كضباط في الجيش العثماني، تسلل الفن الحديث، عبر عبد القادر الرسام، محمد صالح زكي، عاصم حافظ، والحاج سليم، إلى جيل كان يتطلع لبناء مصير تتحقق فيه معادلة دمج، أو صهر، أو تركيب الأصول الكلاسيكية ـ التقليدية ـ مع رغبة توازي ثورات الفن الحديث. في الرسم، وبعد تأسيس أول جماعة فنية ذات أهداف محددة، واعني بها، الجماعة البدائية (s.p)، التي حملت اسم (الرواد) بزعامة فائق حسن، والجماعة المنشقة عنها، بحيوية الاختلاف، واعني بها جماعة بغداد للفن الحديث، بزعامة جواد سليم، يكون الرسم الحديث في العراق قد أسس نشأته، للمرة الأولى، دامجاً كل ما تسلل إليه من تجارب الواسطي، والمولوي، وحداثات الفن الأوربي، لبلورة ما سيشكل هوية جيل الخمسينيات، برمته. محمود صبري، لم يختر جواد سليم، الأكثر راديكالية، بل اختار واقعية فائق حسن، بتعديلات نقدية صاغت الوجه المغاير لمفهوم الترف في الفن. فلم يكن أسلوبه تطبيقات لنظرية محددة، خالصة، بل استجابة لنزعته الواقعية ـ التعبيرية، المتأثرة بالفكر الاشتراكي، الماركسي، لبلورة النزعة: الواقعية الانتقادية، وليس محاكاة الطبيعة، أو الأساليب التقليدية. فموضوعات: الشهيد، والعوائل المشردة، والفقر، انفرد فيها وحده، بتعبيرية استقى أصولها من وعيه المبكر بالظلم الاجتماعي، الذي يرجعنا إلى أصول سومرية سحيقة، إلى جانب وعيه الاجتماعي ـ السياسي، المبكر للتحرر الوطني. فلم يخف نزعته اليسارية، في رصد معالم حياة هيمنت عليها قرون طويلة من الركود. فالتعبيرية، هنا، ليست نزعة ذاتية، إلا في حدودها الجمعية. إنها واقعية منحها لا وعيها كأسلوب لم يغب عنه التشخيص: نسوته المدثرات بالسواد، وعالمه الجنائزي الشبيهة بمشاهد دفن ديموزي ـ معاصرا ً ـ ووجوهه الكالحة التي لم تفقد لغز حضور الإنسان ـ وغيابه، ما هي إلا تفصيلات لريادة تزعمها محمود صبري، بجوار دراساته النقدية، لعالم انقسم بين ماردين: الأمريكي والسوفيتي، وهو يرى ان الفن ليس مرآة، أو زينة، بل منظومة علامات، ومشفرات، لا يمكن عزلها عن واقعيته ـ التعبيرية. ولكن لماذا، بعد عقد أو عقدين، سيدشن واقعية الكم، وهي نظرية تستند إلى تحليل درجات ـ وحركات ـ كل لون، وإعادة تركيبها وفق هذه المعادلة. فانا اعتقد أنها نزعة بحث لاستكمال احد أبعاد الفن: خروجه من البعدين، نحو المجال الذري ـ وربما ـ نحو اللامرئي. محمود صبري، كرسام وكمنظر، ليس مكملاً للأسماء الرائدة فحسب، بل منهج قد نجده ينبثق، عبر التشخيص أو التجريد، كي تستعيد الواقعية تجددها، وليس بصفتها محاكاة، أو انعكاساً، بل جزءاً من عالم يولد فوق أنقاض حتميات الهدم. في الرؤية: ملامح النقد منذ أرسلت الدولة العراقية البعثات الفنية في فاتحة ثلاثينيات القرن الماضي، وخمسينياته، دشنت شروط بناء تصورات التحديث، فكانت الريادة قد أرست بعض مفاهيم التحديث الفني:1 ـ السفر إلى أوربا والعودة منها بمفاهيم تؤسس لحضور الفن في المجتمع العراقي ـ والبغدادي تحديداً ـ بعد انقطاع قد يرجعنا إلى نهاية الإمبراطورية الآشورية، دون إغفال ظهور تجارب استثنائية إبان العصر الذهبي للدولة العباسية.2 ـ تأسيس مراكز للفن: معهد الفنون الجميلة (1939 ـ قسم الرسم) وجمعية الفنانين التشكيليين (1956) بعد ظهور التجمعات والجماعات والمشاغل الفنية.3 ـ ظهور الفن كعلامة مواكبة لمفهوم التحديث، والعمل على بناء حياة لا يمكن فصلها عما يجري في أوربا ـ والعالم. فالفن لم يعد في حدود الأشغال اليدوية والشعبية، أو محض مرآة اجتماعية أو إضافات تزيينية حسب، بل كل الذي سيشكل اختلاف الاتجاهات الفنية في بلورة مفاهيم (التحديث) وصولاً إلى (الحداثة) في التشكيل العراقي. في هذه السنوات ظهرت نصوص محمود صبري، إلى جانب تجارب جواد سليم وفائق حسن وخالد الجادر وحافظ الدروبي وعطا صبري وأكرم شكري وفاضل عباس وشاكر حسن وإسماعيل الشيخلي، نصوص توضح رؤية صبري للفن ومدى اختلافها ـ نظرياً وتطبيقياً ـ عن التجارب الفنية التي سادت بعد تبلور ثلاث أهم جماعات فنية في بغداد.ومع أن محمود صبري، لم ينتم إلى جماعة بغداد للفن الحديث، إلا انه عمل في سياق شعار عام كان جواد
محمود صبري..رائد الواقعية - التعبيرية في الرسم العراقي الحديث
نشر في: 14 إبريل, 2012: 08:26 م