TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > أحاديث شفوية :أول انتحار

أحاديث شفوية :أول انتحار

نشر في: 15 إبريل, 2012: 10:46 م

 احمد المهناعلى حد علمي فإن انتحار قائمقام السليمانية، السبت 14 نيسان الماضي، شانقا نفسه بحبل، في مركز توقيف مديرية الأمن بالمدينة، هو العمل الأول من نوعه الذي يقدم عليه رجل متهم بالفساد في العراق.والإنتحار لا يشكل ظاهرة اجتماعية لدى الشعوب التي يسود فيها التدين. فهو نادر فيها للغاية. بينما يشكل ظاهرة اجتماعية ملحوظة في المجتمعات التي يتراجع فيها تأثير العامل الديني. وغالبا ما تكون أسبابه ذاتية، يقل فيها الأثر الاجتماعي المتعلق بالصيت والسمعة. وبالجملة يمكن رد ظاهرة الانتحار في الغرب الى شيوع الأمراض النفسية فيه نتيجة تراجع قوة التدين.
ورجل السليمانية المنتحر سياسي، ينتمي الى أحد الحزبين الحاكمين في إقليم كردستان. وكان في مقتبل عمر الرجولة، 40 عاما، عندما أقدم على انهاء حياته. وذلك قد يعني انه قليل التجربة، ذو طموح، لديه رأسمال من السمعة يخشى عليه، ولم يبلغ مرتبة متقدمة من الفساد وهي الكفيلة عادة بدفن ما نسميه بالضمير.والضمير قد لا يموت من أول خطوة فساد. القتل يفعل ذلك. ان ارتكاب أول قتل ضمانة مؤكدة في الغالب لموت الضمير، أو بعبارة أخرى للتحرر من القيم، أو لبلوغ الحرية المقطوعة النسب بأي قانون، وبأي قيمة، وبأي مرجعية سماوية أو أرضية. والقتل السياسي خصوصا ينطوي على هذا النوع من التوحش. فما أن يجد الحاكم أو السياسي في القتل احدى وسائل الحفاظ على سلطته، أو مجده، فإنه يصبح خارج مدار القيم، خارج قوانين الجاذبية الأخلاقية.وللأخلاق قانون جاذبيتها الخاص، الموازي لقانون الجاذبية في الطبيعة. وتوحش الإنسان يبدأ من التمرد على قانون الجاذبية الخلاقي. وفي السياسة فإن اختراع "الديمقراطية الليبرالية" ليس في الجوهر سوى تعزيز قانون الجاذبية الأخلاقي، بواسطة منح القانون سلطات تعلو على سلطات السياسة. وبخلاف هذا "الإختراع" فان السياسة تبقى مفتوحة على احتمالات السقوط في هاوية التوحش.  مع الفساد يتأخر السقوط في الهاوية. في الطريق الى المليون دولار قد يتراجع الفاسد، قد يتوب، قد يفشل. وهذه الإحتمالات يمكن ان تعيده الى سلطة قانون الجاذبية الأخلاقي. لكن بعد المليون يصبح التراجع متعذرا. ان النجاح نوع من ديانة. واذا كان أساسه الفساد، فإن الأساس نفسه، وهو الفساد، يصبح الدين.والفساد هو الديانة السائدة في هذه "المرحلة الإنتقالية" من تاريخ العراق. ذلك ما نعرفه، وما  يقوله مؤشر الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية طوال السنوات الفائتة. وحسب هذا المؤشر فإن العراق عام 2011 ثامن أفسد دولة في العالم.ولأن سلطة القانون لا تدور كما يجب، وسلطة الأخلاق ليست فاعلة كما يجب، بقي الفاسدون الكبار في منجى من السجون والإنتحارات. ولعل حادث السليمانية مؤشر على انخفاض مستوى الفساد في الإقليم نسبيا، وقياسا الى باقي العراق. وقد لا يعد هذا الحادث دليلا قويا على هذا الاستنتاج، لكن هناك الدليل الأهم، وهو ندرة مظاهر العسكرة والتسلح في الإقليم. فانتشار السلاح علامة مؤكدة على شيوع الفساد.ان المرء يبتئس من الأحداث الأليمة. ومنها الإنتحار. ولكن الشهادة على قوة الأخلاق مبهجة ولو عبرت عن نفسها بطريقة محزنة. ولعل رجل السليمانية، رحمه الله، تعبير عن هذه الطريقة وتلك القوة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram