ماجد موجدأغلب الشعراء اليوم يغريهم حد الهوس أن يكونوا أبناء بررة، طيبين وطائعين لأبوة إرث شعري عكفت ذائقتهم بما استطاعوا من همة وجهد أن لا يكون إلا هو، أو يصرون على انتمائهم له مخلصين بهمة وجهد أيضا يحاولون التخلص من سواه، بينما كل ما يريده آباء ارثنا الاصلاء هو ما سواه، أي ليس ذلك الذي شاع وإنما الذي ضاع عن إدراك الأبناء أو أضاعوه، أضاعوا الفهم الأصيل للشعر، زبدتَه المكنونة بكل ما هو باهظ القيمة، قيمة الوعي الصارخ بأسئلته التي هي أسئلة المعرفة الكبرى،
فالشعر حسب آباء شعرنا العربي ـ على الرغم من معيارية الشكل السائد آنذاك ـ هو علم وقائله عالم بما لا يعلم غيره، قائله يشعر ما لا يشعر به غيره، ثم أن كلَّ علمٍ شعرٌ، والشعر اصطلاحا مأخوذ من شَعَرَ المرء أي إذا فطن وعلم، حسناً هذا يعني أن الشعر لم يكن في مدونات معاجم قائليه إلا قرينا للعلم والمعرفة وقربانا لهما وهو قبل ذلك مرتبط بالفلسفة ارتباطاً مصيرياً لا انفكاك منه، منذ أفلاطون حينما يقول ـ متراجعا عن مقولات ناهضت أهمية الشعر بوصفه مادة للتعلم ـ (ليس أقدر من الفلسفة على الإفادة من جنوح الشعر نحو المناطق النائية في الذات الإنسانية بحثاً عمّا لا يتوافر في العالم الموضوعي) وهو أن الشعر الخالص يتوفر على قدر من المواءمة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي أو حسب تعريف ادونيس إن ( الفرق بين الشاعر الكبير و الشاعر الصغير، هو أن الصغير حين يعبر عن نفسه لا يعبر إلا عنها، أما الكبير فحين يعبر عن نفسه فإنه يعبر عن عصره كله) أي عن جوهر وجوده في شراكة الآخر‏ وهذا ما نتلمسه أيضا عند بول ريكور حين يقول: (إننا لا نحاول فقط فهم ما تحويه القصيدة، وإنما نحاول أيضا الإمساك بهذا العالم الذي تنتمي إليه، أو الذي تطرحه)، ثمة ما يشير في هذا التصور إلى ضرورة بلوغ الشعر اليوم مرحلة يصبح فيها معتداً بنفسه بأن يمتلك وعيه الخاص مقابل الوعي التاريخي الخاص بالفلسفة والفكر، ضرورة فهم مفاده، أن الشعر الذي ينطلق من العاطفة لا يمكنه أن يستمر ولا يكتمل إلا بالفكر، حتى يتيح له أن يكون راسخاً وذا أثر في معرفة الوجود والتعبير عنه بلغة هي غير لغة الفكر الخالص وغير لغة الشعر الشائع الذي يجب أن نتفحصه الآن، هو أن الشعر لابد أن يكون أداة من أدوات المعرفة المطلقة التي قيست قيمتها من مقدار حراكها في كل ما هو سائد، إنها الطريق التي تقوّم وتنقد لبلوغ الحقائق على وفق معايير الوعي والعقل المتطورين، فثمة حقائق في معايير الأخلاق مثلاً لا يمكنها أن تتواتر من قبل الف عام الى حقائق معاييرنا الاخلاقية الآن وما هي في أقصى الغرب غير ما هي في أقصى الشرق، بل انها تختلف في معايير مجتمع عن آخر وان كانا في اطار بلد ما ومثل ذلك يجب ان تفهم مسيرة التطور الشعري وغاياته وعلينا بدلاً من ان نلتفت سأما وتأففاً الى انحسار اهمية دور الشعر، ان نلتفت الى تحديد معناه وان نتساءل اين هو وكيف وهل هو ابن زمنه موقفا ولغة ومبنى وغاية ومضموناً؟ ان نجد شعرا أقل بكثير من هذا المارثون الكبير والغريب من كتابات بلا ملامح تلهث في جسد الثقافة العربية وتسمى لغوا وسهوا انها شعر.
القليل من الشعر الخالص
نشر في: 16 إبريل, 2012: 07:15 م