أحمد عبد الحسين الشعوب التي لا تثور على الظلم الذي يلحق بها، ولا تغضب في وجه سرّاقها، ولا تحتجّ على قسوة المتسلطين المسلّحين بالمال والعقيدة، شعوب ليست جبانة بالضرورة، وهي لا تخنع وتستسلم بسبب اقتناعها بعدالة "الحاكم المستبدّ" وإنما لسبب أعمق مردود إلى جذر سيكولوجيّ مؤداه ما أفصح عنه عالم النفس الكنديّ "ميلفن ليرتر" الذي أطلق في ستينات القرن الماضي نظرية "الاعتقاد بعدالة العالم".
يعود الفضل للصديق الباحث الدكتور فارس كمال نظمي في تعريفي بهذه النظرية وتطبيقاتها عراقياً في كتابه الشيّق المهمّ "الأسلمة السياسية في العراق .. رؤية نفسية" الصادر توّاً عن دار مكتبة عدنان. ففيه فصل يبحث جذور وأسباب النزعة الماسوشية في العقلية العراقية، يتخذ فيه من نظرية "ليرتر" هادياً له في التنقيب عن هذه الجذور.ملخّص النظرية اعتقادُ الناسِ لاشعورياً أن العالَمَ عادل، وأنّ ما يجري عليهم ويحدث لهم من فظائع ويلحق بهم من ظلم إنما يحدث لهم باستحقاق، لأنهم اكتسبوا ولابدّ إثماً ما، خطيئة أصلية ارتكبوها هم أنفسهم أو أسلافهم الغابرون لينالوا ما استحقوه من عقوبة على يد حاكميهم عسفاً واضطهاداً، اكتواءً بنار حروبٍ أو تجويعاً في حصارٍ، استبداداً أو حرباً طائفية، سرقة أموالهم عياناً من قبل سياسيين بلا قلب أو سوء خدمات، فقراً وانعدام أمان، كلّ ذلك يجري تبريره لا شعورياً من خلال اعتقاد بـ"عدالة العالم" الذي هو مجرد "وهم تكييفيّ يجعل الناس أقلّ توتراً وأكثر رضىً عن حياتهم البائسة".الدكتور فارس نظمي وجد تطبيق هذه النظرية عراقياً في أمثولاتٍ شائعة يرددها العراقيون غالباً من قبيل "حيل بينا! إحنا العراقيين مو خوش أوادم" " نستاهل!" وغيرها من ألفاظ تطمين الذات على سعة عدالة العالم الذي نحيا فيه والذي وزن لنا إثمنا "المفترض" وأبدلنا إياه بما نستحقّ من ساسةٍ لصوص وطغاة عقائد وعبيد أموال.مشاعر الذنب الجماعيّ التي ذكر لها الكتاب أمثلة في إيذاء الجسد باللطم والتطبير مثلاً، هي التي تخفف من غضب الشعوب على أوضاعهم المزرية وصانعيها، ولذا فإن السلطات الحاكمة بديكتاتورية العقيدة تعمد إلى تكريس طفولة الإنسان وجهله اللذين يدعوانه إلى إلحاق الأذى بنفسه، شأنه شأن الطفل الذي لا يجد له حولاً وقوة لردع أعداء سلطانه على نفسه فيتوجّه بالعقوبة لنفسه لوماً وتقريعاً وربما إيذاء جسدياً.بانتهاء طفولة الإنسان وجهله "أو تجهيله المتعمّد" لا بدّ له من الشعور بأن العالم ليس عادلاً كفاية وأنه ليس هنالك من أبٍ أو أخ أكبر عادلٍ يعاقب "أبناءه" على ذنبٍ غامض بصنوف الظلم التي يفرغها الساسة الظلمة على رؤوس شعوبهم. ولهذا فإن إنساناً شبّ عن طوق الجهل لا بدّ له من أن يغضب على ظالميه، من هنا جاء عنوان كتابٍ مهم آخر للألمانيّ "ستيفان هسل" الذي أورد أن مفتاح الحلّ دائماً هو الغضب!كتاب د. نظمي يقدّم دليلاً على أن معظم مآزقنا السياسية والاجتماعية ذات جذر نفسيّ لأننا مأزومون ومرضى بقدر ما في نفوس حكّامنا من أمراض مستعصية.
قرطاس..اغضبوا تصحّوا!
نشر في: 18 إبريل, 2012: 07:24 م