حسن قاسممنذ أول دفقة ضوء إلكترونية منحتها الشبكة العنكبوتية عبر محركات (غوغل، ياهو)، للمستخدم العراقي، تبين أثرها على ملامح الثقافة العراقية، تلك الثقافة التي كانت تعاني طيلة عقود من اللامبالاة والنسيان من قبل القارئ العربي الذي تجاوزها بمراحل، وذلك بسبب آليات الحكم الديكتاتوري المعروفة، والتي ساعدت في إرساء أمراض من التخلف السياسي- الثقافي العراقي آنذاك، حينما كان كل شيء محظوراً، وكان مرض (الأمية الإلكترونية) مستشرياً في صفوف المثقفين العراقيين مثل أمراض القرون الوسطى (السل والتدرن والجدري)،
ولا أحد يمكنه إنكار هذه الحقيقة المرة إلا من كان يساعد النظام في تخلفه، ويمجد لذلك التخلف عبر نصوص مشبوهة كانت تنشر على الصفحات الثقافية للصحف العراقية، وكان مسؤولو تلك الصفحات هم الستار الحديدي الأول ضد أي اختراق محتمل يمكن أن يفكر فيه منتجو الثقافة، وقد كان الشاعر أو القاص أو الناقد – المحروم من أي اتصال الكتروني خارجي - يلقى النفور من مسؤولي تلك الصفحات الذين وقفوا (ببسالة) ضد أي نص يحاول الخروج على سلسلة الاشتراطات والوصايا التي يحفظها مسؤولو الصفحات الثقافية جيداً، وينشرون، أو يسمحون - فقط - بنشر نصوص تستجدي النظام، أو تتغنى برموزه القروية. صحيح أن بعض الأدباء والنقاد العراقيين تجاوزوا محنة الداخل بنشر نصوصهم في صحف ومجلات عربية مستخدمين (تقنية) صناديق البريد التي كانت مراقبة هي الأخرى، إلا أن مرارة تلك الحقبة بقيت تأثيراتها لسنوات لاحقة من عمر الثقافة العراقية، فوجد الجميع أنهم كانوا ضحية مؤامرة تستهدف عمق تلك الثقافة، وتحط من الأسماء التي لم تشترك في المهزلة الكبرى لوضع الثقافة في خدمة النظام من خلال التغني الدائم بأمجاده الزائفة، وانتصاراته الوهمية، والموجودة – فقط – في أذهان الطبالين والزمارين من جوقة النظام. لم يكن للكلمة أن تسفر ذلك السفور الأيديولوجي بوجود مخبري النظام، وكتّاب التقارير، إلا فيما ندر من محاولات محفوفة بالمخاطر وثّقت لأدباء شجعان (يعدون على أصابع اليد الواحدة) كان لهم شرف الوقوف بوجه الطغمة الثقافية، فقالوا كلمتهم المقاومة، وأثبتوا أن : ليس المثقفون العراقيون جميعهم جبناء، وأن فيهم من لم يهز مؤخرته ضمن فرقة الرقص الرئاسية التي كانت تحدد بالضبط من يقف معها، ومن يقف ضدها – أي ضد وصايا القائد، وتعليمات الحزب والثورة – ليتسلم الأديب المدجّن، في آخر الشهر تكريماً مذلاً عن نصوص ليست مذهلة كان قد نشرها بمباركة من مسؤولي الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات العراقية (الجمهورية والقادسية والثورة وجريدة بابل ومجلة ألف باء)، حتى جاءت مجنزرات الاحتلال فأطاحت بهم جميعاً، فكان للتغيير فعل الصدمة على الجميع، حيث تحرر النص العراقي أخيراً من وطأة القوى (الارتكاسية) المتمثلة بمسؤولي الصفحات الثقافية. لكن سيرة الألم الثقافي العراقي بقيت بمنجاة من التعرض لها، لأن الهجمة السلفية التي تلت الاحتلال كانت أشد وطأة من الاحتلال نفسه – وإن يكن الاحتلال هو من ساعدها على الظهور بتلك القوة من الفتك- فوجد المثقف العراقي نفسه أسير قوى (ارتكاسية) جديدة، خفية، متعددة الخطابات، ومتنافرة الطروحات، لا تسمح لأي كان بقول ما يشاء، في أي وقت يشاء، وفي أي مكان يشاء، تحت ذريعة الدين، وهذه المرة وبعد أن تبدى السفور الايديولوجي، تبدى معه السفور الديني (حيث الحشد الزائف من الرؤى والمعتقدات كما يسميها الناقد العربي نبيل سليمان) . وقد ساعدت وسائل الإعلام المتعددة، وشبكة الانترنيت في عودة أعراض المرض من جديد، وصارت المواقع الإلكترونية والفيس بوك مشغولة بمعارك جانبية تستهدف المذهب والطائفة والعرق، ولا تضع للثقافة وزناً، وذلك واضح جداً من المقالات المنشورة والردود والتعليقات المرافقة لها، والآن وبعد الخروج غير المشرف للمجنزرات الأميركية، ما عاد أمام الكاتب العراقي، والمثقف العراقي، في الداخل والخارج إلا الكف عن صنع ثقافة العنف والإقصاء اللذين كان ينادي بهما (طائعاً أو مكرهاً)، ومحاولة إنتاج ثقافة حقيقية ترتقي بالنص الإلكتروني من أمراضه ليتعافى، فيتعافى معه القارئ.
وجهة نظر: محو الأميّة الالكترونيّة
نشر في: 28 إبريل, 2012: 06:44 م