TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > منطقة محررة: لقائي الأول مع بيريرا في برشلونة

منطقة محررة: لقائي الأول مع بيريرا في برشلونة

نشر في: 29 إبريل, 2012: 07:20 م

  نجم والي(2-2)اسمحوا لي الاستطراد قليلاً، وأنا أتذكر المناسبة تلك، هو كيف أن وبالرغم من وصايا وتعاليم السينما الصارمة، فقد شاع بين السينمائيين العرب سلوك غريب باتجاه الأدب والذي يُخفي نفسه في مناسبات معينة أكثر داخل احباطات وحسد أكثر منه حباً للأدب، إن لم يكن ببساطة يعبر عن جهل لا أكثر ولا أقل: الفكرة ببساطة تدعي بأن الروايات جيدة إلى حد كبير ومعقدة بشكل لا يوصف بحيث لا تسمح بتبنيها للسينما، التي تتطلب ضمن ما تتطلبه دائماً أكبر قدر من التبسيط والسلاسة.
 لقد قرأت عند أحد الكتاب العرب ـ الذي يكتب زاوية أسبوعية في أحد الملاحق العاطلة عن الثقافة، تعالج "سن اليأس" الثوري ـ يتحدث عن أحد الأفلام التي اعتمدت على إحدى رواياته بغرور كافٍ كما لو كان يستعير شخصية الروسي ليو تولستوي وهو يشتكي لتبني إحدى رواياته من مخرج "ناجح!!" الكاتب يُبسط التفكير، ويُبعد بصورة ماهرة كل شك يتعلق بالصورة التي صُنعت عنه وعن أدبه، حجته فكرة ساذجة تقول بأن فيلماً ما يكون سيئاً لأنه غير مخلص للرواية التي أستند إليها! في الحقيقة، ليس من غير النادر أن تكون الحالة معكوسة: وهي بأن فيلماً ما يكون سيئاً ليس بسبب خيانته للنص الذي أستند إليه، إنما بالذات لسبب إخلاصه غير المشروط للرواية التي اعتقد بأنه أمين بنقلها إلى السينما.ليس المهم الوسيلة، إنما الأهم من ذلك هو الموهبة فقط. فمخرج سينمائي سيئ لن تنفعه أية رواية مهما كانت عظيمة، بينما المخرج الجيد هو الذي من الممكن أن يُضيف إلى عالم الرواية الكثير من الجديد، هذا ما قاله ذات يوم المخرج الياباني العبقري كورسوا لغارسيا ماركيز: "بعض الكتاب عندما يرون أفلاماً تتأسس على روايات يقولون، إن هذا الأفق لا يتفق مع روايتي جيداً"، ولكن في الحقيقة أنهم يشيرون إلى ذلك الأفق الذي أضافه المخرج إلى رواياتهم دون أن يدروا..لأنهم من المحتمل يرون على الشاشة ما كانوا يعتقدون أنهم كتبوه، بينما أنهم لم يكونوا بالوضع الذي يسمح لهم بعمل ذلك". هذا ما فعله مخرج فيلم "بيريرا يدعي"، ومخرج فيلم "ساعي البريد" الإنكليزي الذي نقل قصة عن شاعر تشيلي مثل بابلو نيرودا للكاتب التشيلي "أنتونيو ساماكرا" الذي عاش في منفاه البرليني، تدور أحداث الفيلم في جزيرة إيطالية صغيرة. في النهاية ليس المهم جنسية الرواية أو جنسية المخرج، بل لا تهم حتى جنسية الممثلين.لا أبالغ القول إذا قلت أنني لا أعتقد أن هناك كتباً أفضل من بعضها يُمكن تبنيها للسينما، وأقل من ذلك الإدعاء بأنه ينقص الذكاء لكتابة رواية أو لصنع فيلم. يقولون بأن العبقري الروسي أيزينشتاين كان يحلم بتحقيق مشروع حمل كتاب "الرأسمال" لكارل ماركس إلى السينما، وليس عندي أي قدر من الشك بأنه في حالة صنعه للفيلم كان سيكون بالتأكيد قد توصل إلى صناعة فيلم عظيم وساحر (لا يهم بأي مغزى أراد العمل على الكتاب!). السينما مثلها مثل الأدب، تستطيع أن تُصنع من أية قضية يصر المرء على معالجتها: مطاردة لحيوانات مختلفة أو رحلة في الزمن؛ قضية تعالج حياة موظف أو حياة "الرجل المتوحش"؛ بل بإمكانها حتى أن تحكي عن اللاشيء الخالص، عن تبعات الأفعال اليومية، عن الأزمان والأماكن التي تحمل أحياناً الكثير من الفراغ: سينما مثل هذه هي سينما لويس بونويل وهوارد واكس وفكتور أريك وجيم جيرميش وآرتوثور، طبعاً لا أنسى هنا شخصيات فيلم "أسفلت كابوي"."يؤكد بيريرا.." الذي جعلني ألتقي ببرييرا وتابوكي للمرة الأولى في لشبونة ربما ليس هو بالفيلم الكبير، لكنه مصنوع بصدق وتماسك، بكياسة وبصنعة جيدة، ويملك في داخله فضائل لا يُمكن نسيانها، فوق كل شيء الحضور الذي لا يسيء أو يلحق الأذى لشخص بيريرا ولهذا الضوء الجلي والظلالات الداخلية لمدينة لشبونة، والقيم الأخلاقية والسياسية الرائعة الواضحة لرواية ما، وقوة انفعالها الرائع.تدور الشائعة المعلوكة والمبتذلة بأنه عندما يُجسد الممثل شخصية ما لإحدى الروايات فإنه يُفقرها بشكل ما، لأنه يحصر الخيال المحتفى به من قبل القارئ، ويفرض عليه بهذا الشكل وجهاً لا يُشك فيه. أعترف بأنني أفتقد الخيال الكافي لاختراع بيريرا ما أكثر حقيقية أو أكثر إخلاصاً لأنتونيو تابوكي أكثر من ذلك الذي ظهر في الفيلم. وإذا ما شككت لحظة بأن إعجابي لقراءة الرواية مرة أخرى ربما جاء من رؤيتي للفيلم وتعلقي بشخصية ماستيرياني التي أغنت شخصية الرواية بأدائها فأنني أسأل نفسي، إن لم يكن تابوكي نفسه قد فعل مثلي عندما بدأ باستقبال الأحاديث والزيارات البشوشة للصديق بيريرا؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram