محمد ثامر يوسف نفسياً، تبدو فكرة مرعبة أو صادمة، فكرة الحماية التي يتلهى بها الجميع أو يجترّونها في المرويات السياسية والاجتماعية والثقافية هنا. إنها أحاديث إخوانيات عابرة مكررة، غير دقيقة تماما. فمنذ تسع ويزيد، تتدحرج بملل، فكرة توفير الحماية، لمجموعة ما، أو مكوّن اجتماعي، ديني أو عرقي، وهو على أرضه (نعني أيضا من ظل منهم عليها). ففي خمول الذكرى أو بؤسها، ومع فوضى تداعيات تغيير العام 2003، عاش المسيحيون العراقيون، غربة نادرة، وأوجاعا معنوية ومادية قاسية، لم يشهدوها من قبل، في بلد هو بلدهم الأصيل.
تلمع فكرة الحماية وفيها بعد استعراضي واضح، بوصفها القيمة الذرائعية الكبرى والأبلغ بالنسبة إلى الآخرين، أولئك الأكبر حجماً، والأكثر انتشاراً، في جغرافيا "وطنية" حالمة ما زالت ترسخ وجود مكوّناتها كلها حتى الآن، بفعل فكرة الحماية نفسها، حماية العشيرة، حماية الطائفة، وحمايات مرادفة أخرى، ميليشيوية أو حزبية، تحافظ كلها في ما يشبه النسق والتفاهم المضمر، على وجود أبنائها، أو أفرادها هكذا. لكنها، وفي السياق وفي الفائض من طاقتها وقد اطمأنت لحالها، تستريح بإعلان حمايتها للذين هم اقل عدداً، للذين بلا حزب أو ميليشيا أو طائفة كبيرة أو عشيرة نافذة، حيث يذبل القانون، وتندثر مبادئ النظام العام. غير ذاك، أنها للمسيحي حماية بلا رصيد. أنها بلا مضمون مدني ثابت، رصيدها الفعّال الآن: "جبر الخواطر". أنها الأمنيات التي يستهلكها الاستعراض وتأكلها الميديا اليومية اللاهثة.أقول، نفسياً تبدو "فكرة الحماية"، طوباوية بقوة، أو هي بدقة، تكثيف فجّ لفكرة استجداء الحاجة من احد، لا كأنه في وطن، بل تحت خيمة عشيرة، إذ هي نمط من تقاليدها، أو عرف من أعراف العصابة، أو أقل وطأة هي من عطايا الطائفة المسيطرة ومكرماتها، فتجاب هذه، بمنّة، أو قل بنوع من الوصاية المحببة التي تنتفي إزاءها "معنويا في الأقل" فكرة التساوي في الوطن. يقول رجل الدين مثلا في خطبته كل مرة، كلاماً إنشائياً مراوغاً: "المسيحيون إخواننا". وينتهي الموضوع. أو يكرر السياسي الجديد، جملاً باردة من نوع: "المسيحيون في حمايتنا". كلام يبدو مملاً أيضاً، وفاضحاً، يستشعر "عيبه" المسيحي قبل أي أحد، ويذكّره كم هو آخر بعيد، يذكّره بشيء من المنّة، أو بمعنى أكثر ثقلاً، يذكّره بوحدته، وبلا جماعيته، وبغربته العميقة في هذه البلاد، بلاده. وهو الإحساس الذي بات يغلّف مشاعر المسيحيين كلهم، منذ سنة التغيير تقريباً، قبل ما يقرب من تسعة أعوام، حتى هذه اللحظة. كما أنها الغربة التي يوسّعها عليهم الجميع يوماً بعد يوم (شركاؤهم الأكبر عدداً في المكان)، كلما استطاب لهم استعراض هذه الرطانات اللغوية الفجة أمام العالم، عبارات دعائية سمجة، عن الوقوف مع الأخ، أو حماية الشريك "السابق" في الوطن.rnلعب سياسي وديني خادعتمويه المخيال الجمعي واللعب عليه، أو استغلال انشغال المزاج العام بهمومه، لعب سياسي لا حدود له. تملك الكلمات بوصفها وسيلة متاحة، طاقة لانهائية أيضا في هذا المجال، طاقة ما أسهل توجيهها وادعاء صلاحيتها في كل وقت. من جهة تتيح بعض القضايا المصيرية نفسها مجالاً واسعاً "مرغوبا" لذلك اللعب، بما فيه استخدام اللغة بفائض عال من الكلمات غير المحددة أو المعرّفة بتوصيف. في العراق، يمكن بسهولة توظيف الاحداث الكبرى لغوياً، أو استثمارها: "اقتحام كنيسة سيدة النجاة وتفجيرها" منذ عام مثلاً (لن أمر على الاحداث الفردية العديدة التي تعرّض لها المسيحيون). أقصد إعادة إنتاج مثل هذه الحادثة الأليمة، وبثها من جديد والإفادة منها عن طريق اللغة كما لو كانت وقائع حادثة الآن. يمكن ملاحظة النشاطات الرسمية العديدة التي تلت الواقعة، أو حتى التي احتفت بمرور سنة عليها وتمحورت حول ضرورة الوئام والتآخي والسلم الاجتماعي وغيره، أيضا ملاحظة قصائد الشعر التعبوي المجاملاتي، وبلادة الخطب الرسمية المدبجة، وزيف الادعاءات الأمنية بالسيطرة على الوضع. حضور هذه كلها، أمام مشهد الدم، وأمام مسألة التهميش والاستباحة الدائمة، وأمام عدد مرات التهديد، ثم الهجرة القسرية المستمرة بسبب ذلك كله، الخلاصة: أمام حقيقة اللاحل.النمط الثقافي الطارد، يسود الآن، وهو غير معنيّ بطريقة نمو المدينة السابق وتقاليدها وطبيعة بنيتها الأساسية وعلاقات ساكنيها مع بعضهم وثقافتهم. بغداد مدينة صارت تتغير شيئاً فشيئاً، سواء بسبب هجرة المسيحيين أنفسهم، أم بانزواء غيرهم من أهل بغداد الأصليين. يتذكر كل البغداديين، كيف كانت بيوت هؤلاء أنيقة، بشبابيك واسعة، وأسيجة مهذبة واطئة لأنها آمنة. يعرفون كيف نمت وأينعت مع نمو بغداد وتألقها وازدهارها، ولا يزالون يتنسمون رحيق حدائقها ويتخيلون رقة شوارع أحيائها وأزقتها النظيفة، قبل أن يفترسها الوجع، ويأكلها الخوف، وتنتشر فيها الفوضى والأزبال، بعدما عمّها الإهمال، وغلبتها العشوائية، وانعدم في تصاميم منازلها "الجديدة" الذوق، حين هدّت البيوت وتقسمت، وصارت الدار الواحدة، ثلاثاً أو أربعاً لساكنين آخرين.واقعياً، رجل الدين السائد، المشغول بحروب الطوائف، لا يعنيه ذلك كله، ولا السياسي "البليغ" يسأل نفسه، كيف اختلفت الأشياء وأين اختفى كل ذلك، أو أين ذهب كل هؤلاء، ولماذا يحصل ما يحصل؟يمكن النظر إلى مواضيع مثل هذه، كدلائل موجزة واضحة على سهولة القبول
البحـــث عـــن "الشــريـك" العراقــــي الضـائــع
نشر في: 29 إبريل, 2012: 07:23 م