شاكر لعيبيتتنقل الجغرافيات الشعرية في العالم العربي لأسباب غير شعرية تقريباً. بعضها يتعلق بالوضع الجيو-سياسي، الآخر بالثقل الاقتصادي، والثالث بوضع تاريخي أو فكرة سياحية ثابتة عن بلد ما. كلها لا تتعلق بالشعر ولا بالشعرية. فالتغيرات التي طرأت على العراق مثلاً من حروب وحصار وقمع من كل نوع أثرت على مكانة الشعر العراقي
وخففت من حضور شعرائه في الوعي العربي. إن جميع صنوف المواقف والمشاريع الشعرية والممارسات الشخصية الرفيعة والمعيبة إنما هي تعبير عن انحسار "صورة الشاعر" ووضعيته في العراق. لا وزنَ يؤخذ عربياً على ما يبدو لشعر مقتلَع من جغرافيته مهما كانت عظمته. يبرهن بعض الشعر الفلسطيني على ذلك بالمقلوب، فإن اقتلاع الوطن الجغرافي بالعنف وأن استعارة الأرض – الأم الكبرى المنتهبة ظلت حاضرة في كل مكان من العالم.من جهة أخرى يمكن ملاحظة أن المكانة التي صار يحوزها، أقلها، الشعر النبطي والشعبي في منطقة الخليج والسعودية بحيث تُكرَّس له صفحات طوال في كبريات اليوميات والدوريات، إنما تنبع من الوزن الاقتصادي لتلك المنطقة، والثقل بل الضغط الذي يمارسه محبّوه من كبار المسؤولين في الدولة. في الترويج للشعر النبطي ثمة توطين ثقافي قادم من أصول ليست سجالية معرفية بالضرورة، في فضاء جغرافي يتوجب عليه، نظريا، الدفاع المستميت عن لغة الضاد الفصحى.في البلد الواحد نفسه يصير الركون إلى دعم السلطة وأموالها رافعة لشهرة هذا الشاعر، وغمط حق ذاك. ولعل الأهمية الممنوحة لبعض الشعراء، محليا وعربياً، في سلطنة عمان خير مثال على دوافع خارجية. في العراق الأيديولوجي يمكن الحديث عن سامي مهدي وحميد سعيد كمثال للمسألة في سياق آخر. ويمكن القول إن الجغرافيات الجديدة للشعر العربي المنبثقة بسبب سلطة المال، وليس الأدب هي التي دفعت شعراء وروائيين لطباعة مجاميعهم (الكاملة أحيانا) ورواياتهم على حسابهم الشخصي في أهم دور النشر العربية كالفارابي والساقي والآداب. من الواضح أن هذه العناصر كلها ليست أدبية ولا جمالية. كما أن انتقال مهرجانات "قصيدة النثر" إلى القاهرة مؤخراً يستجيب إلى فكرة ريادة مصر الثقافية التاريخية، وأن الأستاذية الافتراضية التي يمارسها بعض الشعراء في لبنان (وهم قلائل) على أقرانهم، بغض النظر عن المستوى الجمالي الفعلي لهذا وذاك، ليسا سوى مثالين على وضع تاريخي مستتب، وأحياناً افتراضي، في الذاكرة الثقافية والشعرية العربية. ثمة جغرافيات متحوِّلة، وهوامش صارت مراكز، لا تؤخذ بالحسبان بسبب هذا الوضع. كل ما نذكره هنا هو أمثلة محسوسة يتهرّب البعض من قولها انسجاماً مع أوضاع جيو-سياسية جديدة، أو "قبولاً" بسطوة من طبيعة اقتصادية أو إقراراً بحقيقة تاريخية بحاجة إلى إعادة فحص. وكلها لا تستطيع الإفلات من فكرة أن هذه الجغرافيات لا يَعترف بها الشعرُ الحقيقيُّ لو أننا عرفناه حقاً. الشعر يقع خارج الجغرافيا، وهو يقف بعيداً عن الجغرافيات المتوهَّمة التي تبالغ بخصوصياتها المحلية، خاصة في الدول حديثة الولادة نسبياً.جميع الأسباب المذكورة عميقة، لكنها طارئة في نهاية المطاف، ولا تستطيع، في تقديري، مراكز القوى الشعرية القائمة على تلك الأسباب أن تُنجز مشروعاً شعرياً أصيلاً دون توافر الموهبة والحرقة الوجودية. احتفالات ومهرجانات الشعر التي انتقلت فجأة من المربد العراقي إلى جرش الأردني دليل قوي آخر. يحضر كل شيء في هذه المهرجانات ويختفي أو لا يُرحّب بالجوهري، حتى أن بعضا من أهمّ الأصوات الشعرية العربية لم تكن تُدعى إليها. تلك الأصوات الغائبة تشتغل في الجغرافية الوحيدة الجديرة بالشعر: العزلة المرِحة في فضاء شخصيّ خصب، يقع خارج الخريطة العربية.rn
تلويحة المدى: لا جغرافيا للشعر
نشر في: 29 إبريل, 2012: 08:18 م