TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > عبد الكريم كاصد..حين ينقر الشاعر على أبواب القلب

عبد الكريم كاصد..حين ينقر الشاعر على أبواب القلب

نشر في: 29 إبريل, 2012: 08:51 م

طالب عبد العزيزحين قرأت كتاب عبد الكريم كاصد (النقر على أبواب الطفولة) كتابه الثاني، قلت في سري: أصبت الشعرَ والشاعرَ معاً ،هذا الكتاب الصغير،الذي تزينه رسوماتُ الفنان فيصل لعيبي ، ملأني شعراً وحياة، فصرت أحمله في كل حقيبة ،حتى كان السفر يعني عندي حمل الكتاب أولا ،
ومن ثم الثياب والأمتعة والعطور والأشياء ،صارت قصائدُه فراشاتٍ تتقافز أمامي في كل حديث عن الشعر، ويوما إثر آخر كان (النقرُ على أبواب الطفولة) يغيِّرُ عليَّ  حياتي، حياة صبيٍّ يلعب بالكلمات ، فيغيرها أحلاما وبراءة وطفولات ،صارت أشجارُ بستاننا أكثرَ خضرة ،ومع قصائِده تدفقت أنهارُ أبي الكثيرة،غدت أعذبَ وأرقَّ  وأجمل،ومعه صرت ألمَسُ العِذوقَ والعصافير والغيمات ،وأسيرُ خلف طواشات التمر في حمدان والسراجي ويوسفان ، أتنشق عطرَ ثيابهن الملونة، صارت الجراديغ مكانا للبهجة والفرح ، ومع (حمزيَّة) التي يرقص الدينار على صدرها، كنت أردد (قلبي الدينار الراعش في صدرك يا حمزية)، وفي مآتم النسوة الفقيرة آنذاك ،أيام المحرّم أقول : (أماه دعيني آكل خبزَ العباس )، وكلما مررت بدكاكين بيع الأثاث وغرف النوم الجديدة، شممت رائحة الخشب الهندي المصبوغ توا، وتحسست ثياب العرسان البيض ،مرددا : (هل يتزوج هذه الأيام الناس..)؟  ولا أقول كثيرا إذا قلت : بلغ حبي للكتاب هذا، أني لا أحصي اليومَ عدد النُسخ التي أهديتها للأصدقاء ، حتى خلت مكتبتي منه، لأني كلما ابتعت نسخة منه، وجدتني مضطرا لإهدائها .  وفي مطلع التسعينات، من القرن الماضي ، حين ضرب الحصارُ أطنابه على بطون الناس، وصار الخبز فرضا والشعر نفلا، والكتاب ترفا فكريا ولغة صعبة ،اضطرتني الحياة إلى العمل نجّارا ،فكنتُ أنشئ للميسورين غرف النوم والأرائك الوثيرة ، وللفقراء أصلحُ الأسرّة ومحامل الأمتعة والشبابيك ،وفي بيت المحامي علي احمد الجاسم ، وبينما أنا أصلح له ما تقادم من أثاث بيته،وما تهالك من رفوف مكتبته، وفي درج قريب من الأرض، عثرتُ على رزم من كتابي الأثير (النقر على أبواب الطفولة ) لا يمكنني وصفُ ما أنا فيه ساعتها، فقد هالني منظرُ الكتاب مصفوفا، أنيقا، تزينه ثانية لوحاتُ الفنان فيصل لعيبي ،وبعد فراغي من العمل استعدت مع المحامي ،الصديق فيما (علي الجاسم) حبي للكتاب، قصصت عليه رواية ما كنت فيه ،ومنه عرفت أن الشاعرَ أستودعه لديه  ،قبل مغادرته المدينة مطرودا منها لبادية السماوة ،أو أنه أحتفظ به لحين من الدهر ،ثم طال عليه الأمد ،أو ما شابه ذلك، ولا أعلم ما إذا كان الكتابُ قد أربك حياة المحامي الصديق حينئذ ،لكني أعرف أني غرفت منه نسخا كثيرة ،وما زلتُ مهديها من أحب،حتى خلت مكتبتي منه ثانية .  ثم غاب الكتاب بغياب الشاعر الطويل في شرق وغرب الأمصار ،وحين قرأنا ( الرحيل عبر بادية السماوة ) علمنا أن الشاعر كان يستبدل المنفى بالمنفى، وإذا كانت إقامة عبد الكريم كاصد الطويلة في لندن قد أضاعت علينا تأمله شاعرا وإنسانا قبل العام 2003، فإن زياراته الأخيرة  للمدينة  السنواتِ هذه، تمكننا من معاينته أكثر، ولأني لا أحسن الحديث في الشعر باحثا أو ناقدا، فسأتركُ الشعر لمن يتصدى له ،لكني أجد أن تجربة عبد الكريم الشعرية دخلت الشعر العربي منفردة بذاتها، فهي لم تنتظم في جيل معين، ولم تتشاكل مع تجربة شعرية أخرى، كانت نسيج بعضها، وإذا وجدنا في تجارب الأجيال العراقية من نصنفهم ضمن قائمة ما، فإننا  لن نعثر على قرين لتجربته ، وإذا أخذنا  كتابه (النقر على أبواب الطفولة) ،أو (وردة البيكاجي) أو (الزهيريات) على سبيل المثال ، فستكون لنا تجربةٌ كتابيةٌ خاصة ، تجربة مغايرة أخرى، هو متحول بنفسه ، بعيد عن الآخرين.   وإذا كان الشاعر قد قدم لنا تجربة شعرية فريدة ،خاصة، عبر كتبه الشعرية الكثيرة ، فقد قدم لنا واحدا من أهم شعراء القرن العشرين ، حين ترجم قصيدة (أنا باز) لـ (سان جون بيرس)، التي نشرتها مجلة الأديب المعاصر مطلع السبعينات ،أي قبل ترجمة أدونيس وعلي اللواتي والترجمات التي تلتها بأكثر من عقد من الزمن، وحين يراجع المترجمون نصوص بيرس المنقولة للعربية اليوم ، فهم يُجمعون على أن ترجمة عبد الكريم هي الأفضل .  وبعيدا عن عبد الكريم كاصد شاعرا ، لا أدعي بأني رأيته قبل خروجه مضطرا من العراق عام 77 ، لكني لم أسمع من معارفه من قال عنه ،بأنه لم يكن منسجما مع ذاته إنسانا وشاعرا، لم تترك روحه الكبيرة لأحد فرصة التقول عليه ،ترى كيف وُفّقَ الشاعرُ لكي يكون شاعرا متآلفا مع روحه حد العظم، هذا نظام صعب، بحسب علمي ، وسط تعدد وتحول الأزمنة والأمكنة،في المسار الإنساني ، لأنَّ المُتغيرَ يفرض قانونه دائما،بل تزحزح المياه الكثيرَ من مواطن الرقة والعذوبة في الجدول الهادئ ،وتجف وتتقعر في وجوهنا مرايا كثيرة ،الوجود الحرُّ في الأزمنة يتيح للبعض بأن يكون غير ما كان عليه هناك ،المال والسلطة والسفر والملابس الفاخرة تحوّلٌ وتغييّرٌ، وإذا كان الشاعر أشد الناس عرضة للاضطراب هذا ، لماذا لم يتحول عبد الكريم كاصد ،الشاعر؟ وقد تحولت الأكوان من حوله، كثيرون هاجروا م

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram