احمد المهنالعل أخطر ما فعلته عقود الاستبداد هو اضعاف مشاعر الوطنية والحرية لدى الشعوب العربية. فقد ترتبت على ذلك نتائج مريعة شملت كل الأصعدة، وفي جميع البلدان العربية من دون استثناء. وآخر تمثيلات هذه النتائج يرتبط بمسارات "الربيع العربي". فعند فجره كان لحظة حرية. لكنه عند ضحاه وفي ظهره عرف الكثير من أنواع "خيانة الحرية".
وربما تكون سوريا أوضح مثال على ذلك. فقد انطلق الاحتجاج السوري متأثرا تأثرا بريئا بعاصفة الربيع العربي، التي هبت من نقطة الثورة على الاستبداد. ثم سرعان ما انعطف مسار الاحتجاج السوري الى وجهة طائفية، أدخلت البلد في شبه حرب أهلية. ولم يكن هذا المنعطف من صنع النظام السوري وحده، مع أنه عمل لبلوغ هذه النتيجة بكل قواه. ان قسما مهما من المعارضة السورية اسهم اسهاما فعالا في تحويل الانتفاضة الى هذا الإتجاه، مدفوعا بدعم اقليمي مالي وسياسي واعلامي واسع النطاق.لقد أصبح واضحا مع مرور الأيام والشهور ان "الاخوان المسلمين" والسلفيين يرفضان أي عمل حقيقي من أجل لملمة المعارضة السورية وراء جسم تمثيلي واسع وبرنامج سياسي موحد. وهما لا يتوقفان عند موقف الرفض السلبي لوحدة المعارضة وحسب، وانما يتجاوزانه الى شن حرب اقصاء على جميع ألوان المعارضة الأخرى. والهدف من ذلك هو احتكار الاخوان والسلفية مشهد الانتفاضة، لضمان استيلائهما على السلطة من دون وجع راس بعد سقوط النظام. وتحول حرب العزل والفرز هذه أهداف الانتفاضة من الوطنية الى الفئوية، ومن الديمقراطية الى اعادة انتاج الاستبداد. والأخطر من ذلك هو فرضها لونا مذهبيا سنيا مستفزا لبقية طوائف البلد واثنياته وقواه العلمانية. ولعل هذا الوجه المذهبي هو سبب تحفظ بقية الطوائف تجاه الانتفاضة، كما أنه يفسر اسباب انسداد امكانية وحدة المعارضة، والانقسام الاقليمي المحتدم حول سوريا. إن نمو قوة "الاخوان" والسلفية ليس معزولاعن أموال "البترودولار" التي تتدفق عليهما. وهنا يكمن موضع الإختراق الخطير للربيع العربي، في سوريا على وجه الخصوص، وبقية بلدان الربيع العربي على العموم. فهذا "الاختراق" لم يكن ليجد له مكانا على هذه الدرجة من السعة في سوريا، وفي مصر ايضا الى هذا الحد أو ذاك، لو أن مشاعر الوطنية والحرية على ما يرام في العالم العربي. ولكن عقود الاستبداد أطفأت هذه المشاعر، ونشرت العدمية، وعممت الضياع، ممهدة بذلك الأرض أمام الاختراقات المشبوهة. ان المال أقوى موجهات وحوافز السياسة بغياب البوصلة الوطنية والمناعة التحررية ووفرة الفقر وانتشار اليأس. والأنظمة المحافظة الغنية في المنطقة مستعدة للإنفاق في كل اتجاه تراه مفيدا لأمنها. وكان نداء "الربيع العربي" الجاذب في فجره قد شكل تهديدا لها، لأنه مثل تطلعا جديا الى الديمقراطية. وتشترك دول الخليج الغنية مع ايران، رغم الحرب الباردة بينهما، بمصلحة في حرف مسارات "الربيع العربي" عن الاتجاهات الديمقراطية، وفي تحويلها، حيث أمكن، الى الوجهة الطائفية. فالنظام القديم لا يحيا إلا بالزيت القديم.لقد كان فجر الربيع العربي بداية انطلاق الاتجاه المعاكس للعدوى الطائفية اللاهبة. ولكن القوى المحافظة تجاهد من أجل اعادته الى ما قبل نقطة انطلاقه. يساعدها في ذلك ضمور المجتمعات المدنية وخبو مشاعر الوطنية والحرية بفعل عقود الاستبداد.
أحاديث شفوية: ظُهر "الربيع العربي"
نشر في: 2 مايو, 2012: 09:35 م