احمد المهناهناك اتجاهان في التفكير على عداوة تامة مع الحوار. أحدهما اصطلح عليه "الدوغماتية". ويشمل كل معتقد لا يدانيه شك، معصوم، صاغ سليم من رأسه الى أخمص قدميه، مثل دين "القاعدة". والحوار مستحيل مع هكذا معتقد جامد ومتعصب.
والثاني يسمى "النسبوية". وهو شيء آخر غير النسبية. والنسبوية هذه فيها مجال للحوار، ولكنها تفرغه من أي فائدة. ذلك انها تنفي وجود أي حقيقة، وتعتقد ان كل شيء تأويل. تقول للنسبوي، مثلا، ان الاحسان الى معدم فقير فائدة وفضيلة. فيسألك: مفيد لمن وفضيلة من؟ الفائدة للمعدم يا رجل وللمحسن الفضيلة. ثم يعل فؤادك في نقاش عبثي لا تصل معه الى حقيقة، ولو كانت بسيطة مثل الإحسان فضيلة.حسنا هل زعماء "العملية السياسية" دوغماتيون أم نسبويون؟ لا هذه ولا تلك، وان كانت النتيجة واحدة: تعذر الحوار الحقيقي. فمن أي اتجاه اذن ينحدرون؟ والى اي اسرة فكرية ينتمون؟ انهم ساسة. والساسة طلاب سلطة. والحوار بأنواعه أهم وسائل الوصول الى السلطة في الديمقراطية. وأصحابنا يدعون الإيمان بالحوار. ولكنهم يفترون. فما الذي يمنعهم عنه؟ هل تقف جيوش جرارة بينهم وبين الحوار؟ ولماذا يبدو الحوار أثقل على صدورهم من الجبال؟ان المسؤولية عن استعصاء الحوار لا يتحملها الجميع بالتساوي. المسؤولية مراتب ودرجات. والنصيب الأكبر منها يتحمله المالكي لشغله المنصب الأكبر. والرجل يبدو أمينا لسيرة أسلافه. والواقع اننا اذا راجعنا تاريخ العراق الحديث نجد ان الحوار هو الاستثناء والاستبداد هو القاعدة. وأكثر من ذلك نجد ان الحواري الأكبر في هذا التاريخ كان رجلا مستوردا الى العراق. انه الملك المؤسس فيصل الأول. أما خلفاؤه على المركز الأول في السلطة فكانت صلاتهم مع الحوار تتراوح بين الخصومة والعداوة. وجلهم عسكر وأقلهم عقائديون. وهذه هي المدرسة التي تخرج منه الجماعة، المدرسة العراقية.ان غياب السمة الحوارية عن هذه المدرسة وراء مسلسل كوارث العراق، وعلى رأسها حلقة الذروة الممثلة بغزو الكويت. لقد عشنا ذلك الحدث الرهيب. كانت السعودية وايران قد تضررتا بنفس درجة تضرر العراق من سياسة الكويت النفطية. فهذه الدولة رفعت انتاجها اكثر بستمئة الف برميل نفط يوميا من الحصة المقررة لها في اوبيك. وهو ما ادى الى خفض اسعار النفط في تلك السنة المشؤومة الى 11 دولارا للبرميل.وكانت للكويت أسبابها الخاصة ومنها أزمة سوق المناخ التي كلفتها خسارة 90 بليون دولار. ولكنها أيضا كانت تتصرف في ذلك الأمس بطريقة قطر العظمى اليوم، وضد السعودية بالذات، أكثر مما ضد العراق. انظروا مثلا كيف تحدث وزير النفط الكويتي لصحيفة وول ستريت جورنال في 12 حزيران 1989 :"ان السعودية مثل شركة كبيرة منهارة تجري في كل اتجاه محاولة ان تفلت من قوانين الافلاس"!ومع ذلك لا السعودية تخبلت ولا ايران شاشت. كذلك صبر أو تفهم الخاسرون الآخرون في اوبيك من عدم التقيد بحصص الإنتاج. صاحبنا وحده الذي ثارت أعصابه، لأنه لم يفهم. لم يفهم لأنه دكتاتور. والحوار، وهو وسيلة المعرفة، أشد أعداء الدكتاتور. ومن دون الحوار، وهو السؤال والجواب، ليس هناك غير العمى. وبعماه الذي أخذ صورة غزو الكويت أوصل مدرسة اللاحوار الى أعلى مراحلها، والعراق الى أشد مصائبه.اليوم ليس لدينا حيل على الكويت ولا على ايران. الوجهة محلية. والمحل حقل ألغام لا مرشد لتأمين السير فيه غير الحوار. ودون هذا الاضطرار ليس هناك غير الانتحار.
أحاديث شفوية: الحوار أم الانتحار؟
نشر في: 5 مايو, 2012: 09:35 م