أحمد عبد الحسينالمدى تنتصر مرة أخرى.أول من أمس ردّتْ محكمة لبنانية الاستئناف الذي تقدّم به رئيس تحرير مجلة الآداب اللبنانية "سماح إدريس" ضد الحكم الذي أصدرته محاكم لبنانية أيضاً قبل سنتين تقريباً والذي أنصف المدى ومحبيها ممثلينَ بشخص رئيس تحريرها فخري كريم.
حكاية المدى مع الآداب يمكن أن تكون تلخيصاً لحكايتنا ـ نحن العراقيين ـ مع عرب تلهج ألسنتهم وأقلامهم بحبّ العراق الذي كان يدرّ عليهم لبنا وعسلاً، ولكنهم يكرهون العراقيين. يحبّون المثال الذي اصطنعوه عن العراق اصطناعاً بعون من فائض شعاراتٍ مستلة من عداء لفظيّ لأميركا وإسرائيل، وحراسةٍ للبوابة الشرقية كان يموت فيها خيرة شبابنا، وصمود ومقاومة في أراجيز شعرية وعنتريات لفظية تقشرتْ سريعاً عن هزيمة منكرة هي الأفدح في تأريخ العرب، ثم سقوط صنم الاستبداد سقوطاً مدوياً اقشعرتْ له هلعاً وحزناً قلوب محبي الطغاة وممجديهم والمعتاشين على أعطياتهم. في الأيام الأولى لسقوط الصنم، كان كثير من عرب صدام يجدون سوقاً رائجة لهم، يجدون من يصغي لزعيقهم النادب لضياع مجد بغداد بعد القبض على القائد العربيّ في حفرته، وكانت هذه الخطب وقود نارنا التي أحرقتْ وقتاً وجهداً كثيرين بعد أن أودتْ بحياة عشرات الآلاف من أرواح عراقية زكيةٍ في إرهاب أعمى كان للعرب فيه نصيب وافر.انتهتْ تلك الأيام.الربيع العربيّ لم يحرّرْ بعض شعوب العرب من جلاديها فحسب، بل حرر العرب من أوهامهم الكبيرة والكثيرة، أعطاهم الترياق الذي يقيهم من سمّ الشعارات الذي طالما أدمنوه، لم يعد الصوت الزاعق بالرطانات يغريهم، ولذا أسقط في يد كثيرين ممن كانوا يعملون في وظيفتين متزامنتين: النطق باسم "صمود وممانعة الأمة" نهاراً، وسدانة الديكتاتور العربيّ والتبخير له ليلاً.خسارة سماح إدريس دعواه ضدّ المدى ليستْ أكبر خسائره على ما أظنّ، فخسارته لانهيار حكم صدام أفدح، ومثلها خسارته لحكم القذافيّ، خسارته للتمويل الذي كان يجود به قادة أبيدوا على يد شعوبهم أو على يد جيوش أتت من وراء البحار، أكبر بكثير من خسارته دعوى في محكمة لن تكلفه " مادياً" سوى مئة ألف ليرة لبنانية، وهو مبلغ هزيل بقياس حساب مصرفيّ لرجل أعمال، وهزيل بالقياس لحجم وعدد كوبونات النفط التي أراد بعض العرب أن يعاقب المدى لأنها كشفتْ عنها وعمن استفاد منها.لكنّ حكم المحكمة أول من أمس كان موجعاً لهؤلاء بسبب حمولته الرمزية، فالحكم في لبنان من قبل محكمة لبنانية بدعوى يقيمها عراقيّ ضد لبنانيّ انتصار للثقافة العراقية كما هو انتصار للقضاء اللبنانيّ الذي نجح في هذا الاختبار بامتياز.لم يكن هذا أول انتصار للمدى وصاحبها، تكرر الأمر من قبلُ في القاهرة، وتمّ الحكمُ على "أخبار الأدب" بعد تشهيرها برئيس تحرير المدى، وتم تغريم الصحيفة المصرية مبلغاً من المال، يعرف زملاؤنا المصريون ان فخري كريم تبرع به ـ بعد تسلمه إياه ـ إلى إحدى وسائل الإعلام المصرية، كما قال لي يوماً زميل مصريّ التقيته في بيروت.حكايتنا مع العرب تكاد تنتهي. لم يعد لبيّاعي الأوهام سوق، ولم تعد بضاعتهم تغري أحداً بتقليبها، وتأريخ العرب يصنعه ـ لأول مرة ـ شبان ساحات المدن العربية، وبعض السياسيين والإعلاميين ممن لا يساومون على الحريّة.سيأتي وقت يسأل فيه العربُ عن مقدار التمزّق الداخلي الذي كان يعيشه بعض الكتبة العرب، عن مقدار نفاقهم الذي يجعلهم يمزقون تأريخهم ليرقعوا به التأريخ الأسود للطغيان، وسيسألون عن مجلة الآداب التي كانت يوماً ما ملتقى نخبة الأدب والفكر العربيين، كيف انتهتْ إلى أن تكون مكاناً لتصدير سموم يراد منها التفريق بين أبناء العراق، مرة بدعوى مناهضة "عملاء الاحتلال" وأخرى بشعار شوفينيّ يستعدي العرب على الكرد وثالثة بلملمة بعض الكتاب العراقيين ليكونوا أعداء لحريّة بلدهم وشعبهم.نعرف ان مشاكل ـ بل معضلات ـ الدولة العراقية كثيرة وبعضها مستعص، لكن ذلك لا يجعلنا نقف حائرين في الاختيار بين العراق وسواه، بين الحرية التي تنسمنا هواءها أخيراً رغم بعض الغبار الذي يعكرها وبين العودة لزمنٍ أسود تمطر فيه غيوم الديكتاتورية وبالاً على العراقيين وكوبونات نفط على أشقائنا.المدى انتصرتْ .. والعراق!
قرطاس: المدى تنتصر
نشر في: 7 مايو, 2012: 07:50 م