سرمد الطائيالزملاء في مرصد الحريات الصحفية أولوا اهتماما كبيرا في تقريرهم السنوي لهذا العام، لمحنة المصور الصحفي مع الكاميرا التي يمكنها أن تدفع عناصر الامن والجيش الى اعلان "النفير العام" بمجرد ان تقع اعينهم عليها بيد الصحفيين. لماذا كل هذا الشعور بالعداء تجاه "الصورة"؟
ضوابط كيفية ومعقدة تظل تتحكم بتراخيص حمل الكاميرا او القيام بتصوير فوتوغرافي او فيديوي، واجتهادات الاخوة الضباط تظل هي الحاسمة في نجاح مهمة التصوير او فشلها. الاصدقاء المصورين ومراسلو التلفزيون يقولون ان هناك تعبيرا مجازيا شائعا في فن الصورة هو ان المصور "لص" يصطاد اللقطة اصطيادا. اي انه بين ملايين الثواني التي تتحرك خلالها الاجساد والاشياء، يسرق احلى اللحظات ليمنحها الابدية ويخلدها بكاميرته. اما في العراق فإن الكلمة يمكن ان تستخدم بمعناها الحقيقي، اي ان المراسل التلفزيوني او المصور الصحفي يمارس عمله كمن يسرق اللقطة سرقة وعليه ان يتحايل على الساسة ورجال الامن والمسؤولين كي يقوم بتصوير نهر او جسر او مظاهرة او حياة عابرة عادية.. او مشروع مألوف...الخ. واتذكر انا والزملاء اننا نجحنا في القيام بتصوير اماكن مهمة وحساسة كانت بحماية "جيش المهدي" او "مسلحي القاعدة"، الذين كانوا اكثر تساهلا مع عناصر امننا ومسؤولينا في أحيان كثيرة.وحين يكون الوضع على هذه القاعدة، فإن الحديث عن حرية التعبير وحريات الصحفيين، يكتنفه مستوى رهيب من المغالطات. الحكومة تحاول ان تفتخر بأن سجونها خالية من اي صحفي، وتقول ان معنى هذا هو ان حرية التعبير في بلادنا هي الابرز عالميا. بينما يقول صحفيون تجولوا في بلدان مستبدة رسميا، ان حرية حركة الكاميرا في بعض بلدان الاستبداد اوسع من بلادنا الديمقراطية جدا.المستبدون يسجنون الصحفيين، وديمقراطيو العراق يسجنون المعلومة المهمة ويحجبونها ويقيدون حركة الكاميرات. ولا نريد ان نبدو متطلبين او متبطرين في هذا الاطار، لكن الامر يثير السخرية، ففي وسع اي عراقي او اجنبي ان يحجز غرفة في فندق يطل على دجلة ويقوم بكاميرا احترافية بتصوير كل المنطقة الخضراء (حيث يقيم ساسة مرعوبون من الكاميرا) شبرا شبرا.. بل ان خدمات مثل غوغل يمكنها ان تمنحك هذه الصور بعملية خالية من التعقيد. ولذلك فإن كل التفسيرات "الامنية" المطروحة للقيود هذه، امر غير مقنع والتفسير الوحيد له هو استعداء وسائل الاعلام ومحاولة افشالها بأي طريقة.الأمر يؤدي اليوم الى "فقر عراقي" رهيب، لا بالمال والخدمات، بل في الصورة. وحين تجرب ان تعمل بحثا في محركات الانترنت عن صور عراقية او لقطات فيديو، ستكتشف اننا البلد الاكثر فقرا. لن تجد بسهولة صورة تستحق النشر لباخرة عراقية. ولن تجد ابدا وصلة فيديو لسفينة عراقية او لقطة من ميناء مهم يمكن ان تخرج عن تلك اللقطات الرسمية شبه الميتة التي يقوم بالتقاطها مصورو الحكومة حصرا. ولن تجد بسهولة منظرا عاما من كل المدن. ولن تجد ولن تجد. وحين تحاول ان تصنع صورة لمكان عراقي فإن السلطات تدخل في انذار رسمي."المدى" نشرت قبل ايام تقريرا محزنا عن فشل مؤسسة بارزة هي "ناشينال جيوغرافيك"، في اعداد فيلم عن اهوار العراق. المؤسسة الدولية هذه غامرت بالكثير وحاولت الوصول الى اعماق الهور لصناعة فيلم "مال أوادم" عن اهوارنا المسكينة المحرومة. والنتيجة انهم تعرضوا للاعتقال مرتين خلال يوم وليلة، وغادروا البلاد كافرين بديمقراطيتنا هذه.حرية الصحافة في هذا البلد هي الاختبار الابرز لدخولنا العصر الجديد. وهي المعيار الابرز لابتعادنا عن روح العسكرة والاستبداد. وهي خط دفاع حاسم عن الانسان. ففي غياب كاميرا الصحفيين يمكن للسلطان ان يفعل ما يشاء.وعلى ذكر الساسة، فإن الكثير من ساسة العراق كانوا صحفيين، او شعراء، او يكتبون في الصحف والمجلات. وكنا نعتقد ان وجودهم في بلاط السلطان سيسهل الامور، لكن العكس يحصل دوما. ويبدو ان السلطان قام بتقريبهم اليه بهدف "كشف المؤامرات الصحفية الخطيرة" واحباط حركة الكاميرا. أشدد هنا ومعي كثيرون طبعا، على نية مرصد الحريات تخصيص سنة كاملة لتشجيع الصحفيين على ان يكافحوا من اجل "حرية الكاميرا"، وعلى الحكومة ان لا تتفاخر ثانية وبشكل بات مقرفا جدا، بأن سجونها خالية من اي صحفي، وكأن وجودنا خارج السجن جاء بفضل "مكرمة سلطان"، يغدق بها على رعاياه في جزيرة معزولة.
عالم آخر:الحرية للكاميرا يا حكومة
نشر في: 7 مايو, 2012: 09:27 م