ناظم محمد العبيديفي مشهد لأحد أفلام الحرب العالمية الثانية تدخل الدبابات الروسية الى العاصمة برلين المدمرة ، فتكتسح الجدران وتدمر كل شيء في طريقها ، بينما تصرخ مكبرات صوت لإذاعة محلية بصرخات النصر لألمانيا النازية بزعامة الفوهرر ، ويكتمل المشهد الطريف ـ بكاميرا قريبة ـ بأن تطلق الدبابة قذيفة باتجاه مصدر الصوت وتفجره لتخرسه الى الأبد !
هذا المشهد استعارة معبرة وعميقة عن أكاذيب السياسيين وما تلحقه بالشعوب والبلدان ، وكيف تمضي الماكنة الإعلامية بترويج الخطاب الرسمي حتى نهاية الشوط متجاهلة الحقائق على أرض الواقع بكل ما تنطوي عليه من مآس وفضاعات ، ومازلنا نتذكر بطولات العهد الماضي والفتوحات التاريخية وذلك الإعلام الذي أورثنا الكآبة المزمنة ، يبدو أن ميكانزما الحكومات الكاذبة واحدة مع اختلاف اللغات والأعراق ، وعلى ضوء هذا يمكننا أن نضع قانوناً لا يختلف عليه أحد حتى الذين لم يدرسوا الرياضيات والفيزياء مفاده : كلما ازدادت المسافة بين الواقع وخطاب الحكومات فعلينا أن ننتظر الكارثة القادمة ونستعد لها ، وكلما اقترب الخطاب الحكومي من الواقع وأبصر تفاصيل حياة الناس ومعاناتهم اليومية فسيكون هناك سلم ونماء.وإذا أردنا تطبيق هذه المعادلة على واقعنا العراقي اليوم ، فعلينا أن نحسب بدقة المسافة بين خطاب السياسيين وما يجري في الواقع ، فماذا ستكون النتيجة ؟ لقد بدأت العملية السياسية بأن قدم لنا أبطالها على أنهم أمراء طوائف ، وقبل الكثيرون هذه المفارقة الغريبة مع أنها تتناقض مع أبسط فهم لما تتطلبه دولة مدنية تسعى لتكون ديمقراطية ، وكان تبرير هذا القبول أن الواقع العراقي يتضمن مكونات مختلفة ، ولهذا يجب ضمان حقوق الجميع بواسطة المحاصصة وتقاسم السلطات وغير هذه من المصطلحات ، والحقيقة الخفية هنا والتي طمرت في حمى التكسب والبحث عن الغنائم والمناصب ، هي أن وجود طوائف وقوميات أمر بديهي في كل دول العالم ، وأن العملية السياسية لابد أن تبنى على أسس تضمن للجميع حقهم في المواطنة ، فتنال كل الطوائف والقوميات فرصها بطريقة حضارية ، ولكن أن تصبح الطائفة والقومية عناوين السياسة فهذا ما يدعو الى الشك والدهشة ، والغريب أن الأمريكان الذين كانوا يشرفون على اجتماعات الساسة العراقيين في بدء العملية السياسية كانوا لا يحملون من هوية سوى أنهم مواطنون أمريكيون مع أنهم من مختلف القوميات والديانات ، ولا ندري كيف تستقيم الديمقراطية وبناء الدولة على هكذا رؤية تتعمد تمزيق الناس وتستحثهم على إعادة النظر في أصل طائفتهم ، وتثير لديهم المخاوف من أنهم معرضون للخطر من عودة أشباح الماضي السحيق وهي تمتطي الخيل ، عززت هذه المخاوف قوى الإرهاب لتكتمل الصورة وتصبح واقعاً يعيشه الناس ، الم تكن هذه هي النتيجة الطبيعية لخطاب سياسي يتعمد تذكير الناس بأنهم مختلفون ؟ وها هي العملية السياسية تعود لذات النقطة التي بدأت منها ، الا يشير هذا الى خلل في بنيتها وأنها قامت على أسس مغلوطة منذ البداية ؟الحقيقة التي لم يتوصل اليها الكثير منا هي أن قيام الدولة لا يكون من أجل السياسيين الذين هم مجموعة أفراد ، بل لشعوب كاملة ، وأن إعطاء المناصب والامتيازات لأحزاب طائفية لن يصل بطريقة عادلة حتى لأفراد تلك الطائفة ، لسبب بسيط جدا هو أن الوعي السياسي الذي يراهن على الطائفة غير قادر بطبيعته على تجاوز محدودية رؤيته ، فلا غرابة أن يصبح أشد خطراً على أبناء طائفته التي يدعي انتسابه اليها ، وهذا ما شهدناه طيلة السنوات الماضية ، ولو أجرينا استطلاعاً دقيقاً لأدركنا أن غالبية الناس ومن كل الطوائف والقوميات باستثناء المنتسبين الى الأحزاب أو الذين تربطهم صلات قربى بالمسؤولين هم خارج اللعبة ، وأن رصيدهم الحقيقي هو الحزن والصبر اللذان هما رغيف الفقير في كل زمان ومكان !
لقطة قريبة
نشر في: 9 مايو, 2012: 08:25 م