ساطع راجيلا مكان يتحول فيه سؤال الهوية إلى هم يومي بالقدر الذي يحدث في العراق، وهذا الهم يدار على أنه حرب وجود بين الهويات المتناحرة التي تعيش تحت ضغط هاجس الفناء الذي تديره الأحزاب السياسية ويخضع له المواطنون، وصارت حروب الهويات تتحكم بتوزيع مواقع الدولة وفي توزيع الثروة وتقديم الخدمات والحصول
على فرص العمل، وإذا كان سؤال الهوية يثار في أماكن أخرى ويدار من قبل نخب مفكرة ترى الأعمق في تمزقات المجتمع فإن هذا السؤال مغيب تماما في العراق حيث تم حسمه من قبل الكيانات الاجتماعية المسيسة وهي تخوض حروبا يومية حقيقية ورمزية لفرض تلك الإجابات المتناقضة.سؤال الهوية هو ملف سياسي بامتياز في العراق ولذلك يتم التعامل معه من قبل الزعماء مباشرة وتبدو النخبة المثقفة في حالة عجز فاضح عن وضع مسارات عقلانية لإدارة التنوع في البلاد مستسلمة أمام إعلام وتحشيد وتسليح وتمويل الأحزاب التي نجحت في تغييب فكرة المواطنة ووصل تجزئة الشعب إلى حدود دنيا يمكن وصفها بالمجهرية واستدرج الكثير من المثقفين والمنظمات المدنية إلى هذه التجزئة فإذا كانت الأحزاب تتحدث عن شيعة وسنة وعرب وكرد وتركمان وإيزيديين ومسيحيين ...، فإن المثقفين والنشطاء المدنيين تم استدراجهم إلى توزيع للخنادق وتجزئة للحقوق، هناك قضايا المرأة والأيتام والمبدعين والأقليات والمعتقلين، وهي قضايا صادقة وحقيقية لكنها لا تكون مثمرة وذات جدوى إلا تحت غطاء حق المواطن، المواطن بمطلقه، بوجوده الفردي المستثنى من أي تعريف، بل إن الفكر التنويري اعتمد مفهوم (الإنسان) لإطلاقه من التعريفات التجزيئية وكل الحقوق أو التوصيفات اللاحقة إنما تكون بعد استتباب قاعدة حقوق الإنسان أولا، وهي قاعدة مازالت محاطة بالأخطار في العراق ومن الخطأ إهمالها لصالح البحث وراء الحقوق الفرعية وكأن العراق دخل فعلا عصر حقوق الإنسان.علاقة حقوق الإنسان بأزمة الهوية في العراق تتمثل بأنها العلاقة التي تسمح بترتيب سلم أولويات العراقي، فعندما تكون الحقوق (الإنسانية، الوطنية) متساوية تبدأ فرصة تجاوز الهويات الفرعية وسحب ذلك السلاح من يد الزعماء السياسيين الذي يديرون لعبة ترهيب المكونات من بعضها البعض ويتسيدون على هذه المكونات ويشيدون دكتاتورية داخلية (في الطائفة أو القومية) بذريعة الدفاع عن وجود وهوية الطائفة أو القومية، هي معركة واسعة وصعبة ويبدو الزعماء هم الأقوى فيها إلا إذا تم تجاوزهم عبر تصعيد النشاط الحقوقي المطلبي وبالتحالف مع القوى الاقتصادية، وسيكون تحرير الاقتصاد وتحرير النفط من السلطة السياسية هو النجاح الأكبر في تغيير اللعبة السياسية وتجاوز الحرب اليومية للهويات.العراقيون بحاجة إلى إعادة تعريف ذواتهم لأن التعريف الراهن المنعكس في السلوك السياسي للمواطن هو تعريف مقلوب وغير عقلاني لأنه يبدأ من النهاية، المواطن يعرف نفسه بانتمائه الطائفي أو القومي ويدافع ويناصر وربما يقاتل من أجل هذا الانتماء وهو انتماء لا يمنح العراقي أي حق باستثناء حق الموت من أجل هذا الانتماء ومبايعة زعماء أبديين وترسيم أبطال وهميين ينتفعون من ثروة الوطن وأصوات المواطنين لهدم الوطن واستغلال المواطنين، وعندما يصطدم العراقي بحاجاته الحياتية مثل أي كائن حي أو بمستحقاته كأي مواطن في أي دولة يشير زعماء الهويات المتناحرة إلى كيان سلبوه كل قوته يسمونه (وطنا أو دولة)، ويتم استغلال هذه الحاجات والمستحقات في إشعال المزيد من الحروب وإدامة دائرة الخراب.تبدو الهويات الفرعية المتعاظمة في العراق حقولا للألغام تحصل على صيانة دورية وكلما رفع زعماء السياسة شعارات الهوية الوطنية ذهبوا عمليا إلى توسيع مساحة حقول الألغام، وفي كل الأحوال من الخطأ المراهنة على زعماء الهويات الفرعية لإنتاج الهوية الوطنية أو تعزيزها، إنه خداع للنفس لا يتورط به المواطنون فقط بل يتورط فيه الزعيم الطائفي والعنصري الذي يريد تجاوز حدود مجموعته والحصول على أتباع أكثر وكأن الهوية الوطنية ثوب يشترى ويزين به الجسد وليست منظومة فكرية وارتباطا سياسيا ونمطا من العلاقات والتنظيم الحركي والإدارة السياسية والمؤسساتية، الهوية الوطنية ليست حالة أخلاقية أو إيمانية يتمنى الإنسان اكتسابها أو إنه يتقمصها عندما يعجز عن اكتسابها، الهوية الوطنية هي اصطناع مشترك بين أفراد شعب يتفقون في ما بينهم على مصالح عامة عليا ونمط علاقات تربطهم تسهل حياتهم وتحفظ وجودهم ومصالحهم وتحفظ أيضا تنوعهم، الانتماء الوطني ليس دروشة بل هو اتفاق على منظومة حياة والطائفيون والعنصريون يعرفون ذلك، وسبق لأدبياتهم الحزبية أن رفعت درجة الانتماء للطائفة والقومية على الوطن وحسمت الجدل منذ عقود، وهم عندما يصلون إلى السلطة في أي دولة فإن المخطط الأول والأهم لهم هو هدم حدود تلك الدولة، أي تفتيت الوطن، إما بتجزئته إلى كيانات أصغر أو بإذابته في كيانات أكبر، كيانات لا تنتهي إلا حيث يتوقف مد الانتماء الطائفي أو انتشار أفراد العرق.الجغرافيا في العراق تعاند التقسيم حيث لا حواجز حقيقية تفصل المكونات ولذلك فإن أي تجزئة للعراق هي إعلان حرب أبدية بين المكونات، ولذلك فإن الهوية الوطنية هي حاجة ماسة، هي اتفاق سلام بين مكونات البلاد، لكنه اتفاق بحاجة إلى صناع أقوياء أكثر م
ملفّ "الهويّة العراقية في مهبّ الهويات الصغرى" 9..الحروب اليومية للهويّات
نشر في: 12 مايو, 2012: 08:04 م