سرمد الطائيالعاصمة اللبنانية ليست في مصاف المدن الكبرى المزدهرة. احيانا يخيل لك انها اكثر بقليل فقط من "زقاق اسطنبولي" حي ومزدحم وفخم. لكن نجاحها في المنطقة يحمل معنى آخر ترسمه قدرة لبنان على ان يعيش التوتر الحاد ويتفنن في الاسترخاء الحاذق، في آن. بيروت بكل امراضها ولوعتها، تنسق الوان الاشياء كما لا ينسقها احد. تشعر انها تضع عينا على البحر الاكثر زرقة، وأخرى على ما وراء جبل لبنان. وهي تنجح في "لم شمل" الجميع، ففي المقاهي مصريون يحاولون التكهن برئيسهم المقبل،
وعراقيون يمشون في "الحمرا" بالدشداشة احيانا، ويختلفون حول كل شيء. والمدينة تبرع في وصل نفسها بالعالم، عبر انفتاح يقل نظيره، وعبر "خفة دم" لافتة. ومعظم سواق التاكسي او موظفي الفنادق وسواهم، يحاولون ان يثبتوا لك كعراقي، انهم كانوا على صلة بالعراق. احدهم يقول: بأم عيني شاهدت قاتل نوري السعيد حين كنت شابا اعمل في فرن صمون بغدادي. آخر يؤكد: صافحت صدام حسين يوم ذهبت الى مخيم كشافة بالموصل. سائق ثالث يزعم ان موظفا في سفارة العراق ايام الحرب الاهلية، ترك لديه "مليون كتاب" برسم الامانة ليبيعها ثم ضاعت في الحرب ولم يسأل عنها احد!وسائل الاعلام في بيروت هي الاكثر "شطارة" في المنطقة. لكن الصحف القومية حائرة في رسم صورة الدم السوري الواقع على مرمى عصا من الحدود الضيقة. تقول إنها ضد نظام يذبح شعبه، ولكنها ضد معارضة "تتحالف مع الاجانب". وهنا تبدو سياسة لبنان جامدة في مناخ ترقب وخوف. واجهات المكتبات تعطي الاولوية لما كتب وترجم مؤخرا عن سوريا وعائلة الاسد وطوائف المنطقة. والجميع يسأل استعدادا لموسم سياحة لا تعيش البلاد الا على عوائده: ماذا سيحصل لو سقط الاسد؟ كلما سمعوا انفجارا كبيرا في دمشق تملكهم خوف من ان ينتقل مشهد العنف الى بيروت.صحفي مخضرم يبكي على "الدولة" التي لم تظهر، بسبب حكم الطوائف. يقول: لا اذهب الى بيروت الشرقية (معقل المسيحيين) الا مرة كل 6 شهور، ولعمل ضروري جدا. حصل حاجز نفسي لم ينكسر منذ انتهاء الحرب الاهلية، واولادنا لم يعودوا يلعبون مع اولادهم.الحكاية تذكرك بشاب يقود سيارة اجرة في الكرخ ويعترف لك بأنه سيتيه لو عبر الى الرصافة، فقد فتح عينه على الدنيا ايام صراعنا الطائفي ولم يتجرأ ان يعبر نحو مناطق الطائفة الاخرى كي يهتدي الى طرقاتها.لكن حجم معارك لبنان اصغر بكثير من معاركنا، مع ان له وقعا يسمع على مسافات بعيدة. فحكومتهم مصابة بدوار حجمه 7 مليارات دولار يريدون انفاقها كموازنة، بينما تتعرقل في البرلمان. تقرأ مانشيتات الصحف وعناوين الاخبار البيروتية وتسخر من عشرات ملياراتنا التي اهدرت وجرى انفاقها بلا قانون ولا خبرة ولا تخطيط.الصديق الشاعر رامي كنعان الذي نطلق عليه وصف "مختار بيروت" يأخذنا بكرم شديد في جولات لا بد منها. وهو يشرح كيف يتفنن اللبناني في التجارة خالطا السياسة والتهكم بالترفيه والسمر. هنا مطعم شعبي اسمه "البروفسور" كتب على واجهته "دكتوراه فول، ماجستير حمص" ساخرا من الالقاب الكبيرة في الدنيا. وهناك حانة تحكي كيف ان الشيوعية "انهارت في الاتحاد السوفيتي وانتصرت في بار ابو ايلي" كما يقول تحقيق صحفي وضعه اصحاب المحل اعتزازا، على جدارهم المزدحم بتذكارات تختصر تاريخ اليسار العالمي.ورغم كل انفتاح بيروت، فإنها غير راضية عن ادائها. فدبي خطفت 70 في المئة من سوق اعلاناتها خلال السنوات العشر الماضية، كما يقول ناشر كبير. يؤكد لك ان دبي نشأت "بقرار دولي"، ولا علاقة لـ"عبقرية" الشيخ محمد بن راشد بالامر، بينما خسرت بيروت جزءا كبيرا من مكانتها الاستثمارية بقرار دولي ايضا.وفي مشهد معاكس قد يفهم انه رد فعل على ذلك "القرار الدولي" تجد مطار بيروت "يتكلم الفارسية". وهناك من يتحدث عبر المايكروفون بفارسية "ملكونة" لبنانيا، ويرشد المسافرين الإيرانيين الى رحلاتهم، وهو امر لم يحصل معنا في العراق بعد، كما لم يحصل عكسه في مطارات ايران!لبناني مهذب يختصر المشهد حين أحدثه عن العراق: كلنا على كف عفريت. والخوف ينبع من سلاح قد ينقلب على الدستور وسياسة التوافق التي جعلت البلاد تهدأ بصعوبة. اقول له: عفريتكم اشطر وأهدأ من ذلك الذي يسكن كل طوائف العراق. يجيب اللبناني ببساطة: ما في عفريت، احسن من عفريت.
عالم آخر:بيروت حانقة على دبي وتتكلم الفارسية
نشر في: 13 مايو, 2012: 08:52 م