يعلن الجميع في العراق حرصه على بناء دولة المواطنة ودولة المؤسسات الدستورية بعيداً عن دولة المكونات الطائفية والعرقية والقومية من أجل إعادة الحياة والشرعية للهوية الوطنية العليا والتي تغيب ليس لسنوات بل لعقود طويلة . إلا أن البعض مازال يضع العراقيل في طريق بناء هذه الدولة من خلال بعض المواقف التي تظهر بين الحين والآخر ومن خلال الكثير من الممارسات التي تعكس التمسك بمفاهيم خاطئة ورثناها ضمن الموروث الاجتماعي والسياسي
الذي تركته لنا النظم الدكتاتورية والتسلطية التي لم تكن تؤمن بالمفاهيم التي تمكننا من بناء هذه الدولة . ولقد غابت عن الدولة العراقية منذ القدم أهم الأسس المهمة التي تقوم عليها مثل هذه التجربة ومنها ترسيخ مفاهيم حقوق الإنسان وبناء مجتمع مدني حقيقي وتطبيق مبادئ الديمقراطية التي تتحقق من خلال انتخابات ديمقراطية تجعل الشعب المصدر الأول للسلطات وضرورة الفصل بين هذه السلطات التشريعية والتنفيذية منها والقضائية ,وكذلك ضرورة التزام السلطة بالدستور وبالقوانين التي تحكم البلاد .ومن الأهمية بمكان هنا أن نذكر أن مفهوم الدولة كان وما زال في العديد من الدول النامية عبارة عن رئيس يحكم البلاد لعقود من الزمن ينظر إليه الشعب على انه المنقذ والبطل الخارق ويختصر جميع الرموز الوطنية فيعتبرونه رمز السيادة والكرامة لذلك لا يحبذون تغييره فيجددون له البيعة كل مرة في طقوس دكتاتورية بغياب كامل للديمقراطية عن المشهد السياسي والاجتماعي العام وبغيابها غابت فرص بناء الدولة الحديثة وغاب دور المواطن في عملية البناء وتحول إلى مجرد متلقٍ لمفاهيم يفرضها النظام وفكره الاستبدادي الضيق .ولقد وجد العراق نفسه أمام تحديات حقيقية عندما تخلص من النظام الشمولي بعد 2003 وتوجهت إليه الأنظار من كل مكان لترى إمكانية نجاح تجربته الديمقراطية وهل يتمكن من التخلص من موروثه السابق ويتجه لبناء دولة حديثة تسودها مفاهيم الحرية والديمقراطية وسيادة القانون في دولة مدنية يزدهر فيها المجتمع المدني بعد أن شهد العراق على مدى سنوات طويلة عسكرة المجتمع من خلال أنظمة عسكرية تقود البلاد حتى في تفاصيله المدنية. ومن الجدير بالذكر أن التجربة العراقية تواجه الكثير من الصعوبات في طريقها لبناء دولة مدنية حديثة ومنها أن بعض القوى السياسية لم تصل إلى مرحلة النضج الديمقراطي ومازالت تبحث عن مصالحها الحزبية والطائفية والقومية الضيقة بعيدا عن المصالح الوطنية العليا حيث مازلنا نعاني تكريس الانتماءات الضيقة وتقديم الولاء لهذه الانتماءات على المصالح الأخرى, ومن المؤسف إننا نجد أن هذا التكريس لم يقتصر على النخب السياسية فقط بل يمتد إلى بعض النخب الثقافية والتربوية التي تعلقت هذه الانتماءات في ذاكرتها وحملتها معها من الحقبة الماضية وانه من الخطورة بمكان أن يحمل هؤلاء مثل هذه الأفكار والولاءات لأنهم أمل التجربة العراقية في نقل المفاهيم الجديدة إلى المجتمع الفاقد للثقافة الديمقراطية باعتبارهم قادته وممثليه. ولابد من الإشارة إلى أن دور التثقيف والتوعية لا يتوقف على هؤلاء فقط إنما يتحمل الجميع هذه المهمة وخاصة الإعلام الحر والنزيه الذي يجب أن يأخذ دوره في تبني المفاهيم الجديدة والعمل على إيصالها إلى المجتمع لكونه من أهم وسائل الاتصال وأسرعها والتي تجعل المواطن يتفاعل مع الحدث ويتعايش مع العصر .وكذلك لابد من دور مهم لمنظمات المجتمع المدني والتي لها الدور الأكبر في نشر المفاهيم الجديدة من خلال عقد الندوات لتثقيف المجتمع بضرورة استيعاب الديمقراطية بكل تفاصيلها ولكي نتمكن من بناء مجتمع مدني يكون رقيبا على سلطة الدولة ويساعدها في عملية الإصلاح الديمقراطي والاقتصادي والاجتماعي لتحقيق التقدم في إعادة البنى التحتية والانتقال بالعراق إلى مصاف الدول التي حققت مفهوم الدولة الحديثة التي يكون فيها الدستور عقداً اجتماعياً بين المواطن والدولة حيث يتساوى فيها المواطنون ويعيشون بحرية بغض النظر عن انتماءاتهم أو توجهاتهم وتكون الديمقراطية فيها مسخّرة للنهوض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلد من خلال تنمية شاملة تتحقق في ظل هذه الدولة.
دولة المواطنة أم دولة المكونات؟
نشر في: 14 مايو, 2012: 06:59 م