TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > منطقة محررة: في تذكر ستريندبيرغ والتعلّم من غضبه

منطقة محررة: في تذكر ستريندبيرغ والتعلّم من غضبه

نشر في: 15 مايو, 2012: 06:19 م

 نجم والي"إنه يرى نفسه بهيئة المتمردة لرجل بدائي، متوحش يقف عند حافة الغابة، يحدق من الأعلى بغبطة بالمدينة التي أضرم النار فيها"، بهذا الشكل وصفه الكاتب الألماني والسويدي الجنسية لاحقاً صاحب "أنشودة أنغولا" و"أستيتيك المقاومة" بيتر فايس. أوجست ستريندبيرغ الراقص مع الموت، كاره النساء،
الغاضب على العالم جميعاً والهارب الدائم أولاً من نفسه، ستريندبيرغ الذي حمل المفارقة والتناقض معه ودحرجهما دائماً إلى الأعلى والأسفل مثل سيزيف، ستريندبيرغ الذي اُستقبلت أعماله وعُرضت على طول الأرض وعرضها والذي ظل رغم ذلك شخصا عصيّا على الفهم، هيئة بركانية متقدة تقف على قدمين. الصفات الأسطورية هذه ما تزال ترتبط بأعماله المسرحية المثيرة للجدل والغنية بالتنوع. خاصة وأن ستريندبيرغ  لم يترك حقلاً أدبياً إلا ويطرقه، مثل يائس يبحث عن ومضة ضوء أو حجة تقنعه أنه فقط بهذا الشكل يمكنه أن يعيش، أن يظل على قيد الحياة، عزاء يقترب من الانتحار أحياناً، لكنه يغذي الكتابة دائماً بمصل الإبداع. ليس من الغريب إذن أن نجد فيه: الكاتب الروائي، القاص، المسرحي، الكوميدي ومايسترو الدراما، الشاعر وكاتب المقالات ساخرة، مخترع الأساطير والخرافات، بل أن نجد فيه الرسام ومصور الفتوغراف. كل ما له علاقة بالإبداع جربه ستريندبيرغ. قال عنه توماس مان، "عمله طقس منير بمحتواه". 72 جزءاً هو عدد أعماله الكاملة التي بدأت الأكاديمية السويدية طبعها عام 1981، لكي لا ننسى توجهاته الأخرى، من غير المهم ما حوته من تناقض. فهو الصوفي، الدعائي، الطاوباوي وكاتب الرسائل الخسران الذي لم يعجز عن أن يلحق بنفسه كل ما له علاقة بأسطرة شخصيته وجعلها غامضة أو محيرة للمحيطين به.وبقدر ما تقلب ستريندبيرغ بتحولاته ومزاجه الإشكالي، بقدر ما تقلبت حياته أيضاً. فستريندبيرغ المولود في 22 كانون الثاني 1849 في ستوكهولم افتقد أباه مفتش السفن وعمره أربع سنوات، وما حصل له بعد ذلك هو محطات انقطاع، تغيير الوجهة دائماً، محاولة بدحرجة الصخرة إلى غير ما شاء لها سيزيف: هكذا نعرف أنه لم يكمل دراسته للغات التي بدأها، فيما وصدت مدرسة التمثيل أبوابها بوجهه، فشله الأكاديمي فرضه عليه من أجل العيش والتنقل في وظائفه. من معلم خاص في مرة إلى مساعد تلغراف مرة أخرى، لمحرر صحيفة وموظف مكتبة، قبل السقوط في متاهة المحكمات القضائية وقبل أن يُسلم نفسه إلى ترحال دائم، متنقلاً من بلد إلى آخر: عدم الاستقرار والتنقل دمغا حياته. باريس كانت محطته الأولى، ثم سويسرا، بعدها ألمانيا والدانمارك قبل الإقامة في برلين. 1889 كان أشد أعوام الفاقة في حياته، لدرجة أنه فكر بالعمل نادلاً أو خداماً. لكنه وبعد ثلاث زيجات فاشلة انتهت بعدوانية قرر العيش نهائياً في ستوكهولم. الطير يعود إلى عشه، ليس للبحث عن قبر بل لكي ينشب مخالبه. هذه المرة يبدأ في 1910 بنشر سلسلة مقالات يهاجم فيها بعنف البورجوازية السويدية، مقالات يوقفها فقط موته في 14 مايس 1912 نتيجة قرحة بالمعدة.لا يمكن تخيل عمل أدبيله أو تصرف من ستريندبيرغ لم يرتبط بالغضب. معركته مع زميله في المواطنة وهجومه الحاد على هنريك أبسن المدافع عن النساء هما محطة من محطات الغضب تلك. كأن ستريندبيرغ ولكي يكتب المسرحية أو المقال، الرواية أو القصيدة لا يحتاج إلا للغضب وقوداً يشعل به نار الإبداع. لكن ألم يبدأ طريق الحداثة بهذا الشكل؟ عالم ستريندبيرغ قريب من زمانه بشكل مثير، بكل ما حواه من تهويمات وطوباوية. النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان زمن التمردات والثورات.أغلب أعمال ستريندبيرغ مترجمة إلى اللغات العالمية. وهذا ما يحمل الصحافة والأوساط الثقافية العالمية على الاحتفاء به في هذه الأيام ليس بسبب تذكره فقط، بل لكي يبث الروح في كتبه الخالدة لأجيال قراءة جدد. الاحتفاء بستريندبيرغ وإحياء ذكراه في الإثنين الماضي (14 مايس 2012) في الغرب وفي ألمانيا بالتحديد جعلني لا أتذكر الكاتب هذا الذي قرأناه بحماسة ولا الحمى "الوجودية" التي صاحبتني بعد قراءة ثلاثيته "الطريق إلى دمشق" وحسب، بل جعلتني أتذكر تلك الجملة التي قالها عبقري آخر أسمه فرانتز كافكا وهو يصف ستريندبيرغ: "ستريندبيرغ المخيف. الغضب هذا الذي لا يمكن رؤيته إلا في قبضة ملاكمة". الجملة "المخيفة" تلك لكافكا، هي أيضاً المفتاح الذي يعلمنا الدرس الأول بالكتابة. مئة عام مرت على وفاة ستريندبيرغ "المخيف"، وما تركه لنا كنز كبير: خزين غضب دائم علينا ألا نكف عن جعله في ما نكتب وقوداً يشعل نار الإبداع!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

إيران: لن نسمح بتكرار أحداث سوريا والمسلحون لن يحققوا أي انتصار

المخابرات الفرنسية تحذر من نووي إيران: التهديد الأخطر على الإطلاق

نعيم قاسم: انتصارنا اليوم يفوق انتصار 2006

نائب لـ(المدى): "سرقة القرن" جريمة ولم تكن تحدث لو لا تسهيلات متنفذين بالسلطة

هزة أرضية تضرب الحدود العراقية – الأيرانية

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram