الإبداع طريق الرؤى الفذة والأرواح الملهمة إلى المطلقات، وهو الضوء الذي يبُنى به العالم، ولأن الإبداع ينطوي على مثل هذه الدرجة الخاصة من الخطورة والحساسية الفائقة في صياغة الحياة ، وإنجاز حداثة البلدان، ووضع أساسات النظرة الشاملة لعملية النمو والتطور فإنه ينبغي أن ينطلق من رؤية أخلاقية جديدة تحدد مسارات التوجه الحديث وتفتح وتوجه وترسم أدوات خلقه العالية، وهو بعد ذلك فضاء معرفي تمارس فيه الروح المبدعة طريقتها في صياغة المستقبل، وإضاءته وكشفه.
من هنا فإن، النُظم السياسية التي لا تُولي العالم الإبداعي اهتماما استثنائياً خاصاً فإنها ستكون بالتأكيد نظماً غير عادلة وغير حضارية، ولا تليق بأنوار المستقبل القادمة والتي ينبغي الذهاب نحوها بطاقة وشفافية وجوهر الإبداع الخلاق... ليس هناك من حق ولا عدالة حقة في ظل غياب الفعل الوجودي المؤثر للعمل الإبداعي في جميع مراحل البناء اليومي للحياة .... والسياسي أو المسؤول السياسي الذي لا تدخل الثقافة في جوهر نسيجه الفكري ، وموقفه وتصوره العام للحياة والممارسة السياسية .. فإنه سيكون في أحسن الأحوال سياسياً فاشلاً ، لكنه حقيقة سيغدو رجلاً أقرب لطبيعة الدكتاتور والجلاد الذي يرى في أدوات التعذيب وفي الزنزانة مكاناً أمثل لصناعة الواقع. هكذا يجب أن تكون الرؤية الجمالية للعالم وعياً يسعى لحيازته الفرد والجماعة كي تصبح الحرية والتحرر هماً مشرفاً وهواء نظيفاً يتنفسه الكل في موكب المسيرة الإنسانية النبيلة والمشرفة نحو ضفاف الوجود المضاء بأعراس وأعياد الكائن النوراني الحق.. الإنسان الكامل الذي لا يمكننا العثور على وجوده العالي إلا في اللحظة التي يتصالح فيها السياسي والفنان في أعماق الكائن الذي يتصدى لمهمة صناعة مستقبل الشعب الذي يقوده ويسعى إلى سعادته ونموه وكرامة أبناء هو وجودهم الأعلى إنسانية ونبلاً وشرفاً وطاقة في مشاركة عموم البشرية في سعيها إلى إرساء دعائم الحضارة الحقة والتي تليق بكلمة ووجود الإنسان القادم. إن هذه الرؤية تستدعي حضوراً هائلاً للوعي الفريد الخلاق اليقظ الذي يمزج قوى شاملة، وإلهامات متنوعة وقدرات وطاقات عديدة واستبصار عميق للفرد وللعام في نشاطه وفعله الخارقين المنصهرين في لحظة عناق نادرة للكائن والتاريخ توحد وتُحيل جميع الفنون وسيرورتها وتكثفها رافعةً إياها الى فضاء الرقص الرحيب، لأن الإنسان في تلك اللحظة من الوجود الراقص العظيم سيكون محض إيقاع ونشوة وشفوف وفرح لا يتحقق إلا في فعل الحب، وكلاهما الرقص وفعل الحب لحظتان استناريتان خلوصيتان يقربان الكائن من الله. لذا فإن الرقص الحقيقي الذي يمثل تطلع الإنسان الى الحرية والنشوة الكاملة والسموات التي تظل في حركة تفتُّح دائمة على سموات أخرى أكثر جمالاً وضوءاً وأعماقاً لا نهائية، هو بعض من عمل الكائن الحر في امتلاك أدوات الأخلاق النبيلة التي تصنع الوجود الشريف، الحيوي لحياته وحياة الحياة .. ففي الرقص يستحيل الواحد إلى كل .. إلى هواء ينتشر في جميع الجهات والرحاب، والى قمر يُضيء السماء والأرض بنور صاف ، شريف وبهي. في مثل هذا الرقص ـ النشوة.. تتوحد الأبعاد ويكون الـ(هناك) (هنا)الكائن الضوئي يحققه الرقص وفعل الحب فقط. من هنا ينبغي أن نتعامل مع الرقص كقضية وليس كأمر عابر براني .. قضية تساعدنا في معرفة جوانب نغفلها من طبيعتنا الخاصة، ففي الرقص يتفتح الجسد البشري عن إمكانات هائلة وجغرافيات عديدة نجهلها سابقاً.. وفيه يستحيل الكيان إلى كوكب ذهبي وموكب من أعراس أبدية تُرى فيها بروق الجسد الإنساني الذي يُضيء ليل الأعماق، والكون بنوره الخاص الذي لا يتكرر.. هنا يُثار سؤال خاص.. هل يحق لنا أن نتعامل مع هذه الظاهرة الحضارية ـ الإبداعية كما يتعامل سياسيو هذه الأيام الذين حولوا بلادنا إلى مكب يستقبل نفايات الصناعات الأجنبية، بما فيها الأدوات المشعة؟ هل يجوز لنا أن نجعل من هذه النعمى والالتماعة السامية إلى مكب آخر لهذر وتقليد وسرقة ما تعرضه شوارع المدن الأوربية؟ إن لكل روح، ولكل حال ومقام، ولكل طبيعة رقصها الخاص.. فالذات الهندية على سبيل المثال لا الحصر، والتي لها طبيعة غنية وعميقة وشفافة ترى إلى العالم من إشراق البوذية التي تحترم كل عناصر الوجود (إنساناً ونباتاً وحيواناً وحتى الحجر)، فهي تشعر بكامل الامتنان أمام جميع هذه العناصر التي يدور فيها وعليها النور المحرك للحياة.الصوفية ترى في الرقص طريقة تحويلية لجسد الفرد إلى طريق ضوئي ومعبر معرفي يُوصل الذات بالمطلق..والرقص هو الحضور الفذ للمطلق في كيان الفرد.. من هنا فإن رقص المتصوفة والبوذيين ينطلق من فكرة جوهر الكون الكامن في الإنسان ، والذي تتوفر فيه الدعة والشفافية والصفاء والمحبة والود والغرام الذي يفصح عن حركات وتعبيرات وأقواس مشرقية عبقة هانئة تحتضن الوجود برمته، وهي في كل ذلك تختلف عن الرقص الذي تنتجه مجتمعات ترى مؤسساتها السياسية الحاكمة في العنف والحروب والقوة وقهر الآخر وإلغاء هويته وسيلة مؤكدة لفرض هيمنتها وسيطرتها الكلية والوحيد
نص:وجود مُضاء بأعراس الجسد
نشر في: 16 مايو, 2012: 06:26 م