فريدة النقاشانشغل كل شعب عربي انشغالا كاملا بقضاياه الداخلية وبخاصة في البلدان التي اندلعت فيها الثورات في العام الماضي. وتراجعت نتيجة لذلك قضية شعب فلسطين وأصبحت خبراً عابراً في الفضائيات. وحين أضرب بضع مئات من الأسرى الفلسطينيين عن الطعام وأوشك اثنان منهم على الموت لم يجدوا التضامن اللائق ولا حتى المتابعة التي تجعل قضيتهم حاضرة في الوعي العربي وفي الأخبار.
ويحمل إضراب الأسرى من المعاني والرسائل ما لا يجوز لنا أن نتجاهله في الوقت الذي تواجه فيه الثورات مصائر غامضة في ظل صراعات ضارية بين القديم والجديد وبين الديمقراطية والاستبداد وبين العدل والظلم وبين التحرر والاستعباد.يكمن المعنى الرئيسي في إضراب الأسرى في حقيقة الإصرار على المضي قدما في طريق التحرر وإسقاط الاحتلال رغم كل الظروف المناوئة، ولا يملك الأسرى أي شيء سوى أجسادهم فيقررون أن يقدموها قربانا لقضية تراكم عليها الظلم وهددها النسيان، وهكذا يدقون ناقوسا لإيقاظ النيام وتنبيه المشغولين بأنفسهم بأن لهم إخوة يشرفون على الموت، وأن قضية هؤلاء الإخوة هي ذاتها قضيتهم أي التحرر والانتصار على الظلم ووضع قضيتهم مجددا على جدول الأعمال العالمي وقبل ذلك على جدول أعمال الأشقاء الذين فاتهم لأسباب معقدة أن قضية فلسطين هي جزء عضوي من قضية الثورات العربية، وهو معنى آخر غيبته الانشغالات الداخلية في كل بلد فأخذ يبتعد من الوعي والممارسة رغم الديناميكية الهائلة التي فجرتها الثورات في الشعوب العربية، والإضافات المعرفية والنضالية العملية التي قدمتها هذه الثورات حين كشفت الغطاء عن مواهب الشعوب وفضائلها التي فاجأتها هي نفسها، وجعلت قوى الثورة المضادة تعيد حساباتها، وتجدد أسلحتها.وتدور رسالة المضربين عن الطعام في سجون العدو حول رد الاعتبار للقيم النضالية التي سبق أن ولدتها حركة الشعوب عبر التاريخ من أجل تحقيق أهدافها، وبلورتها ثورة 25 يناير في أربعة شعارات رئيسية استوعبها الشعب المصري بل أكاد أقول أنه بعث بها إلى كل الشعوب العربية التي اشتعلت ثوراتها ضد الاستبداد والفساد ألا وهي عيش.. حرية .. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية.وتقول الرسالة إن معاني ومضامين التحرر الوطني التي يعلي الأسرى بإضرابهم من شأنها تنهض الآن حية بعد أن كانت العولمة الرأسمالية والليبرالية الجديدة الوحشية قد دفنتها بقسوة تحت رماد ما أسمته بالواقعية التي قصدت بها القبول بالاحتلال والتعايش معه باعتبار أن هذا هو المتاح، وبذلك كان على الشعب الفلسطيني أن يقبل بالحكم الذاتي بديلا للاستقلال وللشعوب كافة أن تقبل بالحلول الفردية بديلا للتضامن والنضال الجماعي من أجل الحقوق المشروعة.واستثمرت العولمة الرأسمالية والليبرالية الجديدة الوحشية سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية لتنفردا بالعالم مع التنكيل المتواصل بالشعوب التي تقاوم من أجل حريتها، ونجحت هاتان القوتان في أن تحيل قرارات الأمم المتحدة التي تعترف بحقوق الشعوب وتدين العنصرية والغزو واحتلال أراضي الغير بالقوة، إحالتها جميعا إلى حبر على ورق، بل نجحت في طمس معالمها في الوعي العالمي حتى وجد الفلسطينيون أنفسهم مضطرين لإعادة تقديم قضيتهم من بداية الاغتصاب حتى هذه اللحظة.وها هم الأسرى الفلسطينيون يبعثون برسائل التحرر والكرامة عبر إضراب --16 منهم عن الطعام من أصل أربعة آلاف وسبعمئة أسير بينهم نساء وأطفال ورغم أن كلا من وزير الخارجية المصري وجهاز المخابرات هما الآن طرف في المفاوضات من أجل تحقيق مطالب المضربين، بل وقال وزير الخارجية إن القضية الفلسطينية كانت وستظل دوما قضية مصرية فإن المساندة الشعبية من قبل ثوار يناير للمضربين هي أدنى كثيرا من الحد الأدنى كما أنها أصغر من هذا الوجود العميق لفلسطين في الوعي الشعبي المصري.والانشغال بانتخابات الرئاسة وهموم المرحلة الانتقالية ليس مبررا لأن تفوتنا هذه القضية وما أحوجنا لأن تتكاتف كل القوى الوطنية والديمقراطية لإطلاق أوسع حملة تضامن ممكنة مع الأسرى بكل الصور والأشكال والتي برع المصريون في ابتداعها لإنجاز ثورتهم، فرسالة المضربين هي ذاتها رسالة الثورة المصرية.. التحرر والكرامة الإنسانية والعدالة، ويضيف المضربون إليها خروج الاحتلال.
رسالة المضربين
نشر في: 18 مايو, 2012: 06:49 م