شاكر لعيبيالدرس المستخلص من قصيدة غونتر غراس الأخيرة "ما ينبغي أن يُقال" التي أثارت ضجة كبيرة، ليس جمالياً، ولم تكن تنوي، في رأيي، أن تكون عملاً أدبياً محضاً، قدر ما كانت تودّ أن تعلن عن تمايُز ضمير الكاتب عن شروط الخضوع الجماعيّ وآليات النمط الثقافيّ المهيمن الذي يُحرّم على المثقف الاقتراب من موضوعات بعينها.
كيف تكون مفكراً حراً إذنْ في العالم العربي؟ أنت الشاعر والكاتب والصحفي والمفكّر الذي يعمل في شرط لا تمتلك فيه دائماً إلا الخضوع لسياسات الثقافة، في الصحافة والإعلام الذي تعمل فيه، أو أنت الذي لا يستطيع الرؤية خارج سياق وجهات النظر الجماعية السائدة في ثقافته؟ كثيرا ما تقرأ "ما يُقال"، وليس "ما ينبغي أن يُقال" بأقلام جمهرة من ألمع كتاب العرب وشعرائهم في الصحافة العربية الشهيرة. وعندما تسمع أصواتهم في كبريات الفضائيات، يحق لك التساؤل عن السبب الذي يدفعهم لعدم قول كلمة تخالف السياسة الفعلية لتلك المنابر بشأن قضايا الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي الحاسم، وما الذي يدفعهم لنسيان ما يتوجب أن يُقال بوضوح. نعرف أن بعضهم يمتلك منظومة فكرية محكمة تتناقض بالكامل مع المنظومات الأيديولوجية لمنابرهم. كيف يستوي الأمر؟ بعضهم من أصول قومية عربية، آخرون ماركسيون، ليبراليون، مقاومون، معادون للاستعمار، مناهضون للصهيونية والرجعية، علمانيون...الخ. أمام بعض القضايا الخلافية التي تحتاج الى مفكر حر، يصاب بعض مثقفينا العرب بغيبوبة الوعي، خاصةً إذا تعلق الأمر بما يعارض مواقف منابره ومستخدِمِيْه، ليصل الأمر إلى درجة الشعور "بانحباس حراري" اليوم إزاء القضية الفلسطينية، وبالهستيريا من النووي الإيراني والارتباك بشأن الصراع الحالي على سوريا (وليس من أجل سوريا)، ثم بالتلعثم في استخدام مفردة "الإرهاب" في العراق (وليس في سواه). هذه قضايا معقدة، نعترف بذلك، لكن بها شيئاً من بداهة الوعي وتستحق مفكراً لا يخضع لعبودية المال ولا هيمنة الصوت العربي الموحَّد. كأن بعضا منهم كتّابٌ تحت الطلب، لكن بأسلوب منمّق ومصطلحات حديثة ومنطق براغماتيكي. منطق يحسب حساب اللحظة ولا يحسب ثقل التاريخ. يوازن الآني ولا يتوازن مع وعيه وضميره العميق.إذا ما استوعب البعض درس قصيدة غونتر غراس ودافع عنها، فهو يبدو وكأنه لم يقرأ الشطر الثاني من معادلتها المتعلقة بتهديد السلام العالمي القادم، من وجهة نظر غراس، من دولة محتلة محدّدة بالاسم، وليس دولة إسلامية تُحاكَم على نواياها. نحن لا ندافع عن مقالة غراس ولا عن هذه الدولة. وإذا لم نشاطر وجهات نظره هنا أو هناك، فإننا نلاحظ أن نمط مثقفنا يصمت على مضض على وجهة نظر مثل وجهة نظره الجديرة بالانتباه، لأن اللحظة هي لحظة صراع مموّليه مع هذه الدولة أو تلك لأسباب ليست سياسية فقط بل طائفية. خيرة مثقفي العراق الذين يشيح هذا المثقف العربي بوجهه عنهم اليوم لم يصمتوا عن شرط الصراع السياسي مع جيرانهم، بأثمان جد باهظة وأحياناً بأرواحهم، بعيداً عن شروط الكتابة الطائفية الضمنية التي يشتغل فيها أكثر من مفكّر عربيّ مؤطَّر بشروط غيره. طائفية تطلّ برأسها مرة أخرى بشأن المسألة السورية مع زعم قوي خلاف ذلك (انظر تكفير أدونيس مؤخراً لهذا السبب عينه، وهو ما سنعود إليه). ليس غونتر غراس بُدْعاً، قبله تشومسكي الذي ما زال يقول برفعةٍ وحريةٍ داخلية تليق بالمفكر الجدير باسمه، آراءه حول قضايانا الساخنة، ما لا يستطيع مثقفنا المذكور قوله بوضوح تشومسكي وشجاعته.إن الاحتفاء بقصيدة غراس في تلك الأوساط عينها يبرهن على الازدواجية والتناقض اللذين "انحشر" فيهما المثقف العربي قليل الحرّية: إنه لا يستطيع أن يمتلك صوتاً شجاعاً بمثل شجاعتها لكنه يحتفل بها، كأنه يحتفي بالذي يتمتم فيه بالسرّ.ما نكتبه هنا، مرة أخرى، ليس دفاعا عن قصيدة غونتر غراس ولا عن آرائه، إنما تذكير بأهمية تفعيل المثقف الذي يمتلك زمام حريته الداخلية بالتمام، لكي يقول فكرة مغايرة "للمطلوب" وللوعي السائد.
تلويحة المدى: كيف تكون مفكّراً حرّاً!
نشر في: 18 مايو, 2012: 06:51 م