نصر جوابرة *تتسع القراءة الجمالية والنقدية إلى الكثير من المنطلقات والمفاهيم التي تؤسس لرؤية التجربة البصرية وقراءتها، في حين تفرض خصوصية التجربة وزمانها وحتى مكانها في أحيان كثيرة معايير هامة للتحليل وتسهم كمفاتيح للقراءة . أغنيات منزلية، معرض الفنان العراقي صدام الجميلي والذي أقيم على قاعة دار الاندي في عمان ، هو خلاصة لتجربته الجمالية في مشهد يعج بالخلاصات والطروحات الجمالية المتعددة على صعيد فن الرسم
يتفرد الجميلي في بحثه الذي يتأسس على إيمان متين وواع بهذا الجنس الفني كلغة متجددة وقادرة على التعبير في إطار إمكاناتها وأدواتها وكذلك في سياق وظيفتها المتأسسة على المنطق الحداثوي والمرتبطة بالجمال كحالة من التسامي، كما تقدم في عمق مضامينها تعبيرا صريحا عن إيمان الجميلي الراسخ بهذه اللغة بوصفها ممارسة إبداعية ترتبط بالتجريب والتعامل مع اللوحة بمخبرية وبحث يقود الفنان الى توليدات بصرية ويفتح الخطاب الجمالي على كل الاحتمالات بهدف إنتاج الجديد القادر على قصف وعينا الجمالي بحضوره المخالف، بكل ما يحتاج هذا التجريب من مطاولة وصبر وانتظار لكسر الحالة البصرية المنمطة في كثير من التجارب التي تشيء بالكثير من الارتجال اللا مدروس والمسكونة بهم المشاركة والحضور الاستعراضي ، إنها تجسيد لرهان الفنان على الزمن المليء بالبحث المخلص والدؤوب في عالم اللوحة كشرط لولادة غير قيصرية ، فكما يقول الشاعر نزار قباني (إن اصغر وردة بيضاء تمد رأسها عبر سور حديقتنا ، تكلف الربيع تسع شهور اختفاءً تحت سطح الأرض)?إنه بحث الفنان المتمرد والرافض لسؤال اليوم حول الرسم وجدواه في سياق ما يمكن تسميته بتناتولوجيا Thantology اللوحة وإيمان البعض بعقمها إن صح التعبير ، فهو البحث المؤمن بأن اللوحة ما زالت ممكنة، إيمانا قاد الجميلي إلى الحفر في هذا النسق المعرفي بفرادة وخصوصية عاليين، لتشهد هذه التجربة على تمركز الفنان الواضح نحو ذاته الواعية وحاضرته الذهنية المتوقدة وشاعريته التي طالما أسعفته للإحساس بالأشياء كشاعر قبل أن يكون رساما، فهو يؤمن بأن الرسم وإن كان هما جمعيا إلا انه كممارسة نتاج بحث تتأصل فيه ذات الفنان الواعية ، وإن الرسم وإنْ تأسس على تراكمية عبر تاريخ طويل من الممارسة إلا أن الفرادة والخصوصية تشكلان حالة من الإضافة في السياق الأفقي لا العامودي لخارطة تطوره وتراكميته.يحتضن السطح التصويري في أغنيات منزلية أنساق تلقٍ متعددة صاغها الجميلي بوعي جمالي مدروس وإحساس عال عبر عن صوفية عالية وتوحد فريد مع النص، ودراية واعية وحذرة في الاختيارات البصرية بهدف خلق فاعليته الجمالية المحسوبة بدقة وعناية ، فالجمع بين الرسم والمطبوعة والفوتوغراف والمادة الجاهزة بما يذكرنا بأعمال الطلائعيين في لوحة ما بعد الحرب في الغرب الحديث: كأعمال الفنان الأميركيRobert Rauschenberg بكل ما تفرضه هذه التقنيات> من مخاطر ومزالق على صعيد المعالجة والإخراج إلا أنها قدمت في أغنيات منزلية بحذق وذكاء عال، اتحد بها الخط بعفويته وبإحساس طفولي مع اللون وحضوره المثير مع الصورة الجاهزة والمادة المضافة لتبدو وكأنها ترانيم بصرية أكدت إحساس الفنان وعمق شاعريته، وكذلك وعيه الفني باللوحة التي تستجيب لخطاب فني معصرن يتقبل الكثير. تشكل هذه التجربة إجابة من الفنان وبجدارة على المفاضلة الجدلية التي أسست لثنائية الثقافي - التشكيلي في السياق التاريخي للمشهد التشكيلي العربي، بما يسكن الثقافي من أسئلة لطالما تمحورت حول الهوية والذات الجمعية التي ضاقت بها اللوحة العربية المعاصرة، والاحتفاء بالتشكيلي - البصري كقيمة جمالية بديلة تفتح نصنا الجمالي على رهانات وتحديات أكثر معاصرة، فمن منظار مخالف للسائد الذي عودتنا عليه اغلب التجارب التشكيلية المعاصرة العربية والعراقية على وجه الخصوص، حيث الحفر في اللقى البصرية للحضارات القديمة وإعادة إنتاجها وتداوليتها بلغة بصرية معاصرة ، تبدأ أهمية هذه التجربة ولا تنتهي بمحاولة الجميلي الحفر في اليومي والمعاش... في المهمّش والعادي لاستدراجه الى متن اللوحة كمركز، في أشيائه المنزلية بكل ما يعنيه المنزل للإنسان وللفنان من مرادفات وما يقدمه من وظائف حياتية : حاضنة فيزيائية ، حصنه الدائم ، كاتم أسراره ، ملجأه اليومي...، ولما لكلمة منزل من اهتزازات لغوية وانزياحات ترحل المصطلح نحو دلالات فكرية قد تتسع لمعنى الوطن نعم هو وطن الفنان، انه الوطن المجاز، وان بدا مصدرا للشر ولعنة تلك التي أعلنها أفلاطون في جمهوريته حين نادى بتدمير جدران المنازل.فنان وناقد تشكيلي فلسطيني
الغناء خارج السرب..التشكيلي صدام الجميلي في أغنياته المنزلية
نشر في: 18 مايو, 2012: 07:04 م