نادية الآلوسيّ بات في حكم العادة أن يخرج أكثر الرجال مسالمة إلى السوق لشراء لعبة لولده ، ويعود وقد اختار تلقائياً مسدساً أو رشاشة أو ربما دبابة أو طائرة حربية. وليس ذلك لعدم وجود بديل لهذا النوع من لعب الأطفال فالبديل متوفر ، لكن الرجل سيرد على من ينتقده مكتفياً بهز كتفيه مدافعاً بابتسامة اللاجدوى الخائبة.
والأب الذي يفهم أصول التربية الحديثة ويطبقها لن يقوم بإكراه ولده بأية طريقة على التخلي عن اختياره الذي يصر عليه بعد أن فشل في إقناعه ، لذا فهو ينساق إلى تلبية رغبة الولد . ويريح هذا الأب ضميره من شعور الذنب بحجة أن هذه الألعاب قد ملأت الأسواق واكتظت بها الحوانيت حتى اندلقت منها إلى الأرصفة والشوارع . وهو إنما فعل مثلما يفعل آباء مثله ، بل أن منهم من يتعمد شراء لعب الأطفال العنفية لأولادهم الذكور لأنها باعتقادهم تنمي فيهم منذ الصغر سلوك العنف كدليل للقوة أو الجرأة التي تنفعهم عندما يصيرون رجالا. لو أعطينا حق الحكم على سلوك هذا الرجل فإننا لن نلتمس له عذرا أبدا لكننا في ذات الوقت لا نستغرب سلوكه المتناقض . ونحن على يقين بأنه ليس مسالما تماما طوال الوقت ولا يتمتع ضميره بالهدوء والطمأنينة دائما ، فهناك أوقات يكون سلوكه فيها مشوبا بالعنف في أية صورة من صوره ، لأنه واحد منا ويعيش في نفس مجتمعنا . لنتأمل أنفسنا حين نتحاور أحيانا مع آخرين بهدوء ورصانة حول قضية ما ، كم يمضي من الوقت قبل أن يخرج حوارنا عن مساره الرصين ويتحول إلى جدل حاد وعنيف وتعلو أصواتنا على بعضها وقد يتملكنا الغضب عندما لا يقر الآخرون بأن آراءنا هي الأصوب ؟ ويتضح ذلك بشكل كبير حين يتحاور الرجال مع الرجال والنساء مع النساء . لقد أصبح سلوكنا الحياتي اليومي مع الآخرين مضطربا لا يتسم في أحيان كثيرة بالتوازن والاستقرار . بل أصبح العنف فيه سمة ظاهرة تتخذ أشكالا متعددة تبعا لما نكون عليه من مستوى ثقافي واجتماعي ، وصرنا نتعامل بحدة وتوتر كأننا نقف على نهايات أعصابنا . فقد نجد أن شخصا هذب نفسه وجعل ضميره رقيبا على كل أفعاله وبلغ أرقى مراتب الأخلاق ، ينفعل وينفجر في لحظة ليخرج منه إنسان آخر يختلف كلية عن الأول ويسلك سلوكا عنيفا ولابد من سبب قوي لذلك . إن أية خبرة انفعالية مؤلمة أو مهينة لضمير الفرد يقابلها الضمير بردة فعل عفوية ، ويكون العنف هو ردة فعل الضمير الذي تعرض للأذى . والعنف سلوك بدائي لاعقلاني يتصف بالقوة والقهر والعدوان ويتمثل في الرغبة في إيذاء الغير أو الذات ، تحركه دوافع متعددة . وللعنف مظاهر مختلفة كالصراخ والضرب وتحطيم الأشياء أو استخدام قوة السلاح وكذلك من مظاهره السب والشتم اللاذع والسخرية . ويمكن أن يكون العنف فرديا أو صادرا عن جماعة . وبالنسبة للفرد السوي ، فإن العنف هو لغة التخاطب الأخيرة الممكنة له مع الآخرين في مجتمعه بعد أن يعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي ويتأكد تماما بأنه فشل في إقناع الآخرين بحقه وحاجاته أو برأيه . أما النظرية الأخرى فهي السلوكية . وبحسب هذه النظرية فإن العنف سلوك مكتسب يتعلمه الفرد من خلال مجتمعه وتجاربه الحياتية خاصة في مرحلة الطفولة . فإذا تعرض الطفل لخبرة العنف في المراحل الأولى من حياته فإنه سوف يمارسه لاحقا مع الآخرين أو الكائنات الأخرى في الطبيعة أو حتى مع الأشياء الجامدة الأساسية الأولى ، فإنه لن يكون بوسعه توفير حاجاته اللاحقة . لقد تعرض الفرد العراقي لعقود طويلة إلى إخفاقات متواصلة وكانت كل ظروف واقعه تضغط باتجاه فشله في تلبية حاجاته الأساسية حتى في حدودها الدنيا . وكان السبب الرئيس في تلك الإخفاقات هو السلطة القمعية الحاكمة التي اعتمدت العنف سياسة مباشرة لها وجعلته منهاجا للدولة . وقد مارست تلك السلطة عنفا مزدوجا ضد الدول الأخرى وضد أفراد شعبها كانت نتائجه ، الموت ، العوق ، الفقر ، التشتت الأسري ، تدني المستوى التعليمي ، وفقدان القدرة على ممارسة الحياة بشكل طبيعي وكل ذلك أدى إلى جروح نفسية مازالت آثارها قائمة ويتطلب الشفاء منها وقتا طويلا .ولما كان من المستحيل أن يعبر الفرد عن رفضه الصريح لسياسات تلك السلطة أو يحتج عليها فان كل مشاعر الغضب والإحباط والقهر لديه توجهت نحو الآخرين ، الأضعف منه على وجه التحديد ، أو نحو ذاته . ومن الغرابة أن التعبير عن الغضب والقهر المكبوتين تحول إلى عنف كلامي تمثل في الجرأة على سب الذات الإلهية الجليلة ، وهذه ظاهرة تلاشت إلى حد كبير الآن . اليوم ، لم يعد من سبب يدعو إلى كبت مشاعر الغضب والقهر أو الخوف من التعبير عن الرفض والاحتجاج لأن هذه المشاعر وجدت لها مسارب كثيرة ومتنوعة . غير أن رواسب العقود الماضية مازالت مؤثرة ومازال الفرد بعيدا عن مستوى تحقيق حاجاته الأساسية . وأهم من كل ذلك مظاهر الع
ملفّ "ثقافة اللاعنف في العراق" 1..العنف بوصفه سلوكاً دفاعيّاً
نشر في: 19 مايو, 2012: 07:03 م