احمد المهنا أسوأ ما يبتلي به شعب من الشعوب هو فقدان السياسة فيه للشرعية. الشرعية بمعنى تمتع السياسة بمقدار معقول من رضا الشعب. وهي لا تفقد فقدانا تاما الا في حالتي الطغيان والفوضى. فالطغيان يعني الحكم بالقوة العارية من الأخلاق. وهو لا يمكن ان يحظى بالقبول لأنه لا يوجد شعب من دون أخلاق. أما الفوضى فعديمة الشرعية أكثر من السلطان اللاأخلاقي نفسه، لأنها تعني الفقدان التام للأمان.
ومصادر الشرعية عديدة، مثل الإنجاز، التاريخ، الثورة، الانتخابات، الدستور. مصر اليوم على سبيل المثال تعيش حالة ثورة أوجدت عدة شرعيات: ميدان التحرير وهو مفجر الثورة، الجيش الذي عمره قرنان، والبرلمان.وهذه الأطراف الثلاثة متنازعة فيما بينها، ولكن كلا منها يتمتع بشرعية، لأنه يحظى بقبول معقول من أوساط الشعب. نعم هو قبول متفاوت. ولكنه واسع وحقيقي وملموس. قد يخشى كثيرون من المجلس العسكري الحاكم، لكنك لن تجد مواطنا فردا ضد الجيش نفسه. كما انك قد تجد مواطنين كثيرين كارهين للثورة ، فضلا عن "فلول" النظام القديم. ولكنك لن تجد حزبا أو قوة سياسية واحدة ضد الثورة. هناك أيضا خائفون كثر من الأغلبية الاسلامية في البرلمان، ولكن الطعن نادر بشرعية البرلمان المنتخب.أما في العراق فان تشوهات العملية السياسية أصابت الشرعيات في الصميم.- الدستور. أغلبية الكتل تعتبره "أبو الشرعية". ولكنه اعتبار مع وقف التنفيذ. - الحكومة. كل القوى السياسية، عدا دولة القانون، تتهم رئيس الوزراء باتباع سياسة هدفها بناء نظام تسلطي. والرجل لم يبخل في دعم هذا الاتهام بالشواهد، من تعامله مع القضاء، مرورا بمواقفه من الهيئات المستقلة، والتظاهرات، الى انفراده بالقرار الأمني. الأهم من كل ذلك عند الشعب هو فشل الحكومة في الخدمات وفي مكافحة الفساد.- تشكيل الحكومة. كثيرون، وعلى رأسهم الكتلة العراقية الفائزة في انتخابات 7 آذار 2010، يرون تولي "التحالف الوطني" تشكيل الحكومة افتئاتا على الدستور، و"تطويعا" للقضاء، وترجمة للنفوذ الايراني. وهذا، على اي حال، جذر الإشكالية التي اشتدت أخيرا.- التوافق. الأغلبية من أصحاب الرأي المستقلين، على الأقل، يرون التوافق صيغة مرفوضة للمحاصصة، ويعتقدون انه جرد الشعب من سلاح المعارضة البرلمانية. - البرلمان. الدستور جعله "ميدان الشرعية" لكن الممارسة نقلت الميدان الى قادة الكتل.- الكرد. تتمتع الأحزاب الكردية على العموم بشرعية التاريخ والمنجز بنظر جماهيرها. ولكن لديها مطالب أرض وطاقة "متنازع عليها" مع بقية الكتل السياسية، كما أن صيغة العلاقة الفيدرالية بين اربيل وبغداد هي الأخرى مشروع نزاع. لا ينكر ان للكتل السياسية جمهورا من الأنصار والمؤيدين. وهذا قد لا يعد في حد ذاته مقياسا للشرعية. الأموال والسلطات والعصبيات الطائفية والقومية تستطيع شراء وجلب التأييد. لكن الشرعية تأتي من مصادر أخرى تفتقدها معظم هذه التنظيمات، منها القدرة على جذب الأعضاء لأهداف اسمى من النفع والكسب. وهذه القدرة تحتاج الى حيوية فكرية مفقودة في السياسة العراقية.ان أحد وجوه الصراع الجاري اليوم بين سائر الكتل وبين دولة القانون هو التحشد لوقف نهج الانفراد والتسلط. وهذا هدف مشروع. أما بناء الشرعية، أو الشرعيات، فيحتاج الى مقومات أخرى، لعل "الزمن"، هذا الطبيب الأخير، أقدر على تحقيقها من العملية السياسية.
أحاديث شفوية: البحث عن شرعية
نشر في: 20 مايو, 2012: 08:28 م