 احمد المهناالرئيس يعرف كيف يكون غامضا. في عمره لم يتخذ صديقا واحدا. أفعاله وكلماته مع الآخرين لا تتجاوز حدود الحاجة. كان مطيعا عندما كان مرؤوسا. وحكم على المرؤوسين بالطاعة عندما أصبح رئيسا. شق طريقه مستورا دون هزات. لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب. لكنه ولد وفي وجدانه لهفة الى الذهب.
هذه ملامح من صورة حسني مبارك كما رسمها محمد حسنين هيكل في كتاب له نشرته الصحافة المصرية على حلقات مؤخرا. والرئيس المخلوع ليس النوع المفضل لدى الكتاب. فشخصيته خالية من الإثارة، جامدة في العاطفة، وفقيرة في الفكر. انه لا يصلح بطلا لسيرة. "فإذا كنت تريد سيرة لا تبحث عن واحدة عنوانها السيد فلان وزمانه، بل عن واحدة يكون عنوانها: مقاتل ضد زمانه"، على رأي نيتشه.لكن ليست هناك مشكلة لدى "استاذ الصنعة": يبني عرضا استثنائيا من خامة عادية. عنوان كتابه (مبارك وزمانه: من المنصة الى الميدان). البطل هو الزمان الواقع بين لحظتين دراميتين. فالمنصة نهاية وبداية. والميدان كذلك. في الأولى انتهى السادات وبدأ مبارك. وفي الميدان انتهى عهد مبارك وبدأت مصر عهدا جديدا. وفي كلتاهما لم يكن الرجل فاعلا. في كلتاهما تقرر مصيره بأفعال ليست من صنعه. والحدثان شكلا إطارا استثنائيا لسيد كان كالقنفذ يحامي نفسه من زمانه.وخلال ثلاثين عاما بين الحدثين، كان العمل الكبير للرئيس أمن وتأمين السلطة. لم يأخذ شيئا على محمل الجد كما فعل معها. وهو في ذلك ليس استثناء بين الرؤساء العرب. وهذا ما يفسر مددهم الطويلة في الحكم. ان طاقاتهم تتركز على هذه المهمة وتتبدد فيها. ولأن هذه مهمة لا تملأ رأسا ولا تعمر روحا، يظهرون كأناس عاديين للغاية ما أن تخلع ملابس السلطة عنهم. لقد كانوا دائما كذلك ولكن هالة السلطة خادعة.يروي هيكل انه اقترح على الرئيس أن يدعو 10 أو 12 من شخصيات مصر مرة كل شهر، مفكرين واساتذة جامعات ورجال أعمال وساسة حتى لو كانوا معارضين. وقال له ان الرئيس جون كنيدي كان يتبع هذا التقليد.رد عليه مبارك: ان كل هؤلاء سوف يخرجون ويملأون الدنيا كلاما كله "هجص"!( أي تلفيق وكلام فارغ). الرئيس "عملي". وهؤلاء لا يخدمون العمل الكبير. مخه ايضا، وعن فطرة، لا يتسع للأفكار المعقدة. ولكنه لا يقطع تماما مع شخصيات مصر. مع هيكل التقى لقاء طويلا واحدا. وترك ما تبقى من الصلة لبضع مكالمات هاتفية. لابد انه فعل ذلك مع آخرين من نفس الوزن. في واحدة من هذه اللقاءات قال له محمود السعدني: ماذا تشعر سيادة الرئيس وانت تجلس على نفس كرسي رمسيس وتوت عنخ آمون وعبد الناصر؟ تطلع مبارك الى الكرسي وقال لمحدثه: خذه اذا عاجبك!مبارك لا يفهم المجاز. ملكته تقع في مكان آخر. ما أن يظهر المشير عبد الحليم ابوغزاله يوما في الصورة حتى يحذفه منها في اليوم التالي. مدح رفيق الحريري أمامه عمرو موسى بحضور الأخير فقال مبارك: أنا أرسم السياسة الخارجية والوزير منفذ.."فهمو ياعمرو"! الرئيس يتقن تفريغ الصورة من كل شخص عداه. ويأتي يوم يحاذر عليه أولاده بالمحكمة من الظهور في الصورة.