علي حسين عبيدأعني بالجهل المركّب، أن بعضهم ممن أصابهم الجهل، لا يعلمون بذلك، أي يجهل المصاب بالجهل بأنه جاهل، وهذه العقدة أو النقص المركب، قد يكون خطره أقل فداحة حين يتعلق بإنسان ذي وعي بسيط، ولكن حين يتعلق الأمر بالمثقف المعني بإدارة وتطوير مسارات الثقافة، فإن الضرر سيكون فادحا، هنا يُطرَح التساؤل الآتي، تُرى هل يوجد لدينا مثقفون مصابون بالجهل المركب؟ وما تأثير ذلك على الثقافة والمجتمع عموما؟
لاشك أننا حاضنة تقبل هذه الظاهرة وتساعد على انتشارها، وأعني بالحاضنة طبيعة المجتمع ومكوناته ودرجة وعيه وتنوعه، لذا فالاتفاق على وجود المثقف مركب الجهل في ساحتنا الثقافية أمر لا مفر من الاعتراف به، ولابد من أن نؤكد وجود مثقفين مصابين بهذا (المرض)، وهم يدّعون الانتساب للثقافة والحرص عليها والعمل في مجالاتها المتعددة والمتنوعة، لكنهم في الوقت نفسه، يجهلون أنهم مرضى بالجهل، والسبب لأنهم مغلقون على ذواتهم وأفكارهم ومنابعهم الثقافية، أو الفكرية التي يستقون منها تنمية وعيهم وأفكارهم.أما المثقف غير المعتلّ، فهو الذي يعيش طالبا دائما في مدرسة اسمها الحياة، يتعلم منها ويتعاطى معها ما بقي حيّا، يعلّم ذاته ويطوّر عقليته ويرتفع بمداركه إلى أقصى حد ممكن، ليس لنفسه فحسب، بل لإنجاز الدور المهم المناط به، فهو كمثقف لا يتساوى مع الآخرين في تدني مسؤولياتهم إزاء المجتمع، بل هو عنصر فاعل متحرك يدفع بثقافة الجميع إلى نقاط ومستويات أفضل دائما، وهو المثقف العضوي (بحسب تعبير غرامشي) الذي لا يحصر ذاته وأفكاره وأفعاله في حيّز مغلق، بكلمة أوضح في ثقافة مغلقة، طالما كان على قيد الحياة.لكن المشكلة تتعلق بمن يدّعون الثقافة وهم جهلاء، ليس هذا فقط، بل يجهلون أنهم لا يجهلون!!، لذا هم ببساطة لا يقرؤون، ولا يطالعون إلا ما يتفق مع (أحاديتهم الفكرية)، أما الفكر أو الثقافة التي تختلف معهم وأفكارهم وتوجهاتهم، فإنها بمثابة العدو اللدود الذي لا يجوز التقرب منه والاطلاع عليه، خوفا من حدوث التسمم أو التلوث الفكري الذي قد يتعرضون له.وبهذا يبقى المثقف أسير الأحادية والتزمت والاعتداد الفارغ بنفسه وبـ (جعبته الثقافية والفكرية) التي يظن أنها محصّنة من الوقوع في الخطأ، ولا ينبغي المساس بقدسيتها تحت أي مبرر كان، والمشكلة أن المثقفين من هذا النوع يتعامون (بقصد أو دونه) عن رؤية الحقائق الفكرية والثقافية التي تطرح نفسها عالميا بين حين وآخر، ويرفضون رفضا قاطعا حوار الثقافات، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك حين يكفّرون الرأي الآخر، أي الذي يختلف معهم، ويعزلونه أو يعتزلونه في ذوات مغلقة لا تؤمن قط بأهمية تلاقح الأفكار الإنسانية مهما كان مصدرها، أو العقلية التي تطرحها.لذا مثل هذه الأجواء الأحادية، تساعد على خلق المثقف المكتفي بذاته، أي المثقف مركب الجهل الذي يتجنب تجارب الآخرين، وينظر إليها بعدائية وخشية غير مبررة، أو يهملها في أفضل الحالات إن لم يقصِها تماما من فكره ووعيه، استنادا إلى قاعدته الثقافية والفكرية التي تنحو به صوب الانطواء في دهاليز الذات العميقة.هذا النوع من المثقفين لا ريب يشكل خطرا على الثقافة والمثقفين أنفسهم، ثم على المجتمع عموما، لا سيما أننا مجتمع بدأ الآن يرى في نهاية النفق ضوء التحرر والانفتاح على الثقافات الإنسانية، إننا نرغب في أن نندمج مع العالم أجمع في ثقافة إنسانية متحررة لا تستلب أو تشوّه هويتنا، ولكننا حريصون على التفاعل المشترك، في فضاء ثقافي عالمي إنساني، يتيح لنا الاستفادة من تجارب الآخرين ويمنحنا لذة الاكتشاف والاندفاع نحو الأفضل، ولا يتم تحقيق هذه الهدف الجوهري بحضور أو هيمنة المثقف مركّب الجهل.
جهل مركّب
نشر في: 22 مايو, 2012: 06:47 م