احمد المهنا واحد من أخطر الاضطرارات التي يواجهها شعب من الشعوب هو أن تكون معارضته في المنفى. وهذه كانت الحال معنا أيام عراق صدام. انسدت مجالات السياسة في الداخل فانتقل العمل الى الخارج.ان السياسة هي ادارة مصالح الشعب من خلال الحكم، او العمل على خدمتها من خلال المعارضة. أما المعارضة المنفية فانها قد تستطيع خدمة الشعب من الخارج، ولكن هذه الخدمة ستكون مقصورة على جوانب اعلامية وسياسية محدودة، تتمثل بمحاولات فضح مظالم النظام،
وكسب منظمات وأحزاب وحكومات ودول الى صفها ضده.اي ان كل العمل المعارض من الخارج يتلخص بمحاولة تعبئة خلق الله ضد النظام الحاكم. وهي مهمة تكون احيانا عسيرة للغاية. وقد كانت كذلك بالفعل عندما كان نظام صدام يحظى بأعلى نسبة من الصداقات في العالم. ولكن المهمة تسهلت عند نشوء التعارض بينه وبين المجتمع الدولي بعد 2 آب 1990. فهنا تولى المجتمع الدولي بنفسه القيام بالمهمة، وأنجزها بصورة لم تكن المعارضة تحلم بها، ففي ظرف شهور قليلة تمت شيطنة نظام صدام.المنفى اذن يحشر المعارضة بأدنى قدر من الأعمال المجدية. كما لا يضمن لها النجاح حتى في هذا القدر القليل. وفوق ذلك تكون حياة المعارضين أنفسهم عرضة للخطر ولظروف العيش الشاقة.وثمة نتائج أخرى تترتب على هذا النوع من العمل السياسي. أهمها البعد عن الخضوع للمراقبة والمحاسبة الشعبية، تماما كالنظام الذي تحاربه. فالنظام الحاكم يمنع ببطشه الشعب من اخضاعه للمراقبة والمساءلة. ومراقبة الشعب ومحاسبته للمعارضة متعذرة موضوعيا، لانفصالهما جغرافيا عن بعضهما البعض.هذا الفصل قد يؤدي الى اشتراك المعارضة في الخارج مع حكومة الداخل، في تبلد "الاحساس" بالشعب، ومن ثم انعدام الإهتمام الفعلي بمشكلاته، وتقزيم دائرة عمل الجانبين بحدود مصالحهما الضيقة، وانحدارهما معا الى الفساد. فالاثنان بعيدان عن الشعب، وحران من المحاسبة، تماما مثلما تكون المافيات والعصابات بعيدة عن حياة الناس العادية ومفصولة عن دوائر المحاسبة المعتادة.وهذه المعادلة ظلت في الواقع تحكم الحياة السياسية العراقية حتى بعد التغيير، ولكن بشكل مقلوب. ففلول النظام السابق دخلت الى أنفاق السرية أو خرجت الى المنفى. ومعارضة الأمس صعدت الى برج السلطة من دون المرور باختبارات مع الشعب. فظروف ما بعد 2003، خاصة الأمنية، ألزمت السياسة الجديدة والسلطة الناشئة بالعمل والحياة في "المناطق الخضراء".ان شيئا لم يجد على نمط الصلة بين السياسي وبين الشعب. فجدران الفصل ظلت باقية، وربما ازدادت سماكة. وكل ما أمكن هو تعويض غياب هذه الصلة الحية بالصلة الاعلامية البديلة. لقد انتهت عروض السياسة الحية بين جماهير الحزب والشارع والمقهى والمؤسسة وحلت بدلها عروض السياسة التلفزيونية. ان احدى نتائج هذا الفصل التاريخي بين السياسة والمجتمع هو تمسك فصائل المعارضة القديمة، بعد انتقالها الى الوطن، بعروة السلطة. فقد اعتادت فكريا ونفسيا وعمليا وحياتيا ووجدانيا على العمل في دوائر السياسة الضيقة. وهكذا نرى الجميع يتزاحم في رحم السلطة، والكل يخشى فض "المشاركة" فيه والخروج منه الى معارضة قريبة من الشعب. 9 أعوام ولا جنين بين الأجنة يقوى على الولادة، أو "الظهور" وسط الشعب "المجهول". والخوف من المجهول حقيقي بقدر ما نوازع التسلط والطمع والأنانية حقيقية.
أحاديث شفوية:الخوف من الشعب
نشر في: 22 مايو, 2012: 09:34 م