TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > حرف علّة :شبح الجواهري

حرف علّة :شبح الجواهري

نشر في: 24 مايو, 2012: 03:57 م

 عواد ناصر كان الجواهري قبالتي يجلس في الصف الأول من مقاعد الحضور في اتحاد الأدباء العراقيين بداية السبعينات وأنا على المنصة أقرأ قصائدي في تلك الأمسية الصيفية، من موسم صباي المتدفق، كي لا أقول المتهور، فأنا أرتعش، الآن، رعباً أكثر مما ارتعشت وقتها وأنا ألقي قصائدي الأولى في أول اعتراف أدبي بي وأنا في أوّل عشرينياتي، وكانت معي صديقة أيام الدراسة وأحسب أنني أول شاعر عراقي اصطحب معه صديقته إلى اتحاد الأدباء
 وهذا تهوّر آخر في مجتمع محافظ، وبين جمع ذكوري حتى لو كان جمعاً ثقافياً كان الجواهري ملهمه ونجمه وسيده المهيمن.أول قصيدة قرأتها للجواهري كانت بعنوان (جيش العراق) التي هي بين مقررات منهجنا المدرسي في الصف الأول المتوسط (عذراً لخيانات الذاكرة) ومنها بيت وضعني على حافة التساؤل المبكر لأن ذاك البيت روي بصيغتين: "جيش العراق ولم أزل بك مؤمناً...وبأنك الأمل المرجّى والمنى" والثانية: "عبد الكريم ولم أزل بك مؤمناً..." إلى آخر البيت!من غير الكلم وبدل مواضعه؟ هل هم مربونا الميامين أم إنه الجواهري نفسه؟ لا أدري حقاً. لكنه تغيير مثير للجدل وتبديل أثار عندي التباس السياسة والشعر ومحنة الشاعر بالحاكم.. وورطة الحاكم بالشاعر.لكن الحل اللغوي باستبدال "عبد الكريم" بـ"جيش العراق" أو العكس، على حصافته العروضية، أوقع طرفين أو أكثر، إذا افترضنا واضعي المنهج المدرسي طرفاً ثالثاً – في "حيص بيص" فالجيش، أي جيش، ليس معادلاً موضوعياً أو نقيضاً رمزياً لاسم الحاكم، أي حاكم، لكنها "ثقافة" الحل الوطني لإشكال تقليدي على اعتبار أن الجيش هو مفجر الثورة (الانقلاب) التموزية الشهيرة وبذا فهو أكبر من ضابط مهما كانت رتبته ودلالته المعنوية وهكذا جرى الأمر واستقام لكي لا يستقيم.وقبل أيام، إذ أتاح اتحاد الأدباء العراقيين فرصة تكريمي بأصبوحة شعرية – ولا أدري ما المسوّغ لإبقاء الأصبوحات بدلاً من الأمسيات بينما يستمر أدباء وأنصاف أدباء العراق في السهر بحدائق الأدباء حتى منتصف الليل – واجهني شبح الجواهري ثانية على شكل صورة كبيرة عند المدخل وكأنه يخاطبني شخصياً: "وما لك من محيص" فغضضت الطرف لأنني من نميرٍ ولم أبلغ كعباً ولا كلاباً أمام أبي الشعري أبي فرات الجواهري.كانت، إذن، المرة الثانية التي أقرأ فيها شعري باتحاد الأدباء، اتحاد الجواهري الكبير، بعد حوالي أربعين عاما من الغربة، بينما شبح الجواهري يطاردني منذ أكثر من شهر عندما نشرت أحد أعمدتي بعنوان "الجواهري فتى الفتيان" وهو عن قصيدته في المتنبي جدّي وجدّ الجواهري والجميع.وما أن أنهيت قراءتي، بتقديم وتعليق الناقد المبدع علي الفواز الذي كان بمثابة صوتي الداخلي وهو يعرض بدقة الناقد الذكي لتجربتي الشعرية، حتى تقدم الأستاذ ألفريد سمعان ليكرّمني بساعة يدوية، لم أتبين ملامحها لأول وهلة، لأكتشف بعد ثوانٍ أن صورة الجواهري على مينائها، شبحاً، مثل ذلك الشبح الذي ذكره كارل ماركس وصديقه فردريك أنغلز في بيانهما الثوري وهو يجول في زمن العالم هذه المرة لا فوق أوروبا، زمن الساعة التي هي في رسغي الآن أرى فيها الجواهري كلما تطلعت إلى زمني.هي لعنة الجواهري التي لا فكاك منها تتقصى معي إحداثيات الشعر والتمرّد وتلتصق بجلدي مثل وشم شعري غير قابل للزوال وكأن إلهاً مجهولاً ختم به على ذاكرتي وخيالي وجلدي يحرسني من شطط الشعر وتهوره فأرتعش كلما تقدمت في السن أو تورطت بالشعر كما لم أرتعش من قبل في حضرة ذاك الشاعر الحي صبياً أقرزم الشعر وكهلاً يخاف الشعر أكثر ما يخاف في حياته.حسبت أني أنهيت هذا العمود فقمت إلى سريري لأحلم وأضيف حلمي في اليوم التالي إلى عمودي هذا وهو:كان الجواهري في لندن فهرعت إلى استقباله وكان محمولاً على أكتاف شرطة مطار هيثرو اللندني وكانت بانتظاره الملكة إليزابيث الثانية عند مدرج الطائرة القادمة من بغداد، وما أن رآني حتى قال لحامليه: كفاكم عناء وشكراً جزيلاً، وتقدم نحوي ممسكاً بيدي ليقدمني إلى الملكة على أنني حفيده، لكن الملكة لم تكن تلك العجوز بل شابة لها هيئة حورية ذهبية تتحدث باللغة العربية الفصيحة السليمة الخالية من أي لكنة أجنبية، مرحبة بشاعر العرب الأكبر، الذي كان هو الآخر شاباً نجفياً خلع عمامته تواً ورمى بها إلى "الكناسة"، فشعرت بالغيرة لأن الملكة الشابة قادته من ذراعه نحو بحر أخضر يغص ساحله بالحوريات بينما بقيت وحيداً أرقب المشهد وأنا أقف على الساحل الكئيب الغريب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

البرلمان يتوعد بـ10 استجوابات: ستمضي دون عراقيل

انتحاريون على أبواب حلب.. ماذا يجري في سوريا؟

الدفاع التركية تقتل 13 "عمالياً" شمالي العراق

مجلس ديالى يفجر مفاجأة: ثلاثة اضعاف سرقة القرن بالمحافظة "لم يُعلن عنه"

الشرطة العراقي يغادر إلى الدوحة لملاقاة بيرسبوليس الإيراني في دوري أبطال آسيا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram