سرمد الطائي حين حاولت مضطرا ولأول مرة في حياتي أن اقلع عن التدخين، جربت لأول مرة ايضا ان أبحث عن تاريخ التبغ العظيم. والحكاية سلسة ومختصرة بدأت حين عثر كريستوفر كولومبس على القارة الجديدة "امريكا"، والتقى الشعوب التقليدية التي ظلت تنمو بمعزل عن تأثيرات عالمنا المعروف. قبائل الهنود الحمر وهم ما تبقى من حضارات عريقة كالمايا والازتيك، بدؤوا يرحبون بضيوفهم الأوروبيين بتقديم "التنباك" او التبغ، الذي كان يستهلك في طقوس خاصة دينية في الغالب.
والمشكلة بدأت حين لاحظ كولومبس ان بحارته جميعا ادمنوا على هذه النبتة خلال 15 يوما فقط وصاروا يقايضونها مع سكان امريكا الاصليين بأغلى ما يملكون. وحين طلب منهم القبطان العودة الى اسبانيا منتصرين كي يزفوا البشرى الاستكشافية العظيمة، رفض معظمهم ذلك قائلين ببساطة: لا يوجد تبغ في أوروبا، كيف سندخن هناك؟ وجاء الحل عبر تحوير مخزن واحدة من السفن وجعلها صالحة لنقل نبتة التبغ السحرية، لتوفير ما يحتاجه البحارة حين يعودون، وبمجرد ان وصلت النبتة الى اسبانيا بدأت تنتشر وتتكاثر وصار معظم البالغين في اوروبا مدمنين على الدخان في غضون 15 عاما فقط، وخلال الخمسين عاما التالية وصل الامر الى الهند والصين والدولة العثمانية وكل مكان.المؤرخون قالوا ان اسرع وأغرب ظاهرة ادمان في التاريخ هي حكاية التبغ هذه. رغم ان التجارة خربت ظاهرة التدخين. ففي منشئه الاصلي كان الدخان عند الهنود الحمر يستنشق بلا اسراف وفي طقوس خاصة وأنيقة، بينما حوله التاجر الابيض الى سلعة استهلاكية يسهل ممارسة طقوسها في اي ظرف، عبر تطوير اللفافة او "السيجارة" الرخيصة التي فاقمت مخاطر الادمان وقوضت طقوسا هندية عمرها 20 ألف عام من التدخين.ومع المخاطر الصحية التي صرنا ندفع ثمنها جميعا، (وأنا سعيد منذ فترة لأنني أدخن حاليا علبة واحدة مقابل 3 علب في العام الماضي!) بدأت الدنيا تحاول تطويق الإدمان هذا. وعلى رأس الإجراءات الغرف الخاصة بالمدخنين "سموكنغ ايريا" في الأماكن العامة. والغرف التي بدؤوا يجهزونها في المطارات تقول لك: خذ جرعة دخانك بحرية ولكن في هذه الغرفة، اي ضمن قيود العالم الحديث. وتختلف درجة "رفاهية" المنطقة الخاصة بالتدخين من مطار الى آخر، فهم أحيانا يحبسونك في غرفة "تعبانة" تجعلك تكره نفسك، وفي احيان اخرى يتاح لك ان تدخن في ظروف افضل، بالضبط مثل مؤسساتنا التي تتركك احيانا تدخن تحت زخات المطر حتى تصاب بالزكام، او تحت الشمس الحارقة، بينما تخصص مؤسسات اخرى غرفا مكيفة بتهوية معقولة لهذا الغرض.والأمر يذكرني بمبدأ الديمقراطية وعلاقته بشهوة السلطة، او "ادمان السلطة". فالكرسي يظل بمثابة تبغ سارع إلى إدمانه بحارة كولومبس، و"الحل الديمقراطي" يشبه إنشاء ركن خاص بمدمني السلطة داخل العالم الحديث، يقيد سلوكهم ويحدد رغائبهم ويسمح لهم بطرق حديثة جدا، ان ينفسوا عن رغبة التسلط، دون ان يضروا الناس كثيرا.ففي الغرب والشرق يدمن الناس على الكرسي ويعشقونه، لكن طرق العلاج تختلف من مجتمع حديث الى آخر تقليدي جدا وضائع بين الأحلام والتاريخ وغموض اليوم التالي.ومن الواضح أن المجتمعات التقليدية لم تتعلم بعد كيف تدشن "الركن الخاص" بمدمني التبغ او مدمني السلطة. وفي مرة ومنذ ثورات الإصلاح لدى الإيرانيين والأتراك ابتداء من 1906، جاء الغرب وقدم لنا المساعدة في إنشاء "غرفة مدمني التسلط" عبر وضع مبادئ الفصل بين السلطات والرقابة التشريعية والتنفيذية، لكن متسلطينا يسخرون من غرفتهم هذه، ويدخلونها كي يحصلوا مرة والى الابد على المنصب، ويلتصقوا بالكراسي.والاعذار جاهزة فإدمانهم للسلطة مبرر بالصراخ على مستقبل الطائفة، او مستقبل النضال، او "زعزعة الامن" والاستقرار واللجوء الى الشارع، وهي امور تجعلنا نخاف هذه الايام حقا من سوريا الى لبنان وصولا الى اربيل والنجف، كي نلعن كل ادمان تورطنا به وكل متعة "ملعونة" تضع مصائرنا على كف "عفريت مدمن".
عالم آخر:بحارة كولومبس ولعنة الإدمان
نشر في: 27 مايو, 2012: 09:24 م