سليمة قاسم لعبة جر الحبل التي يلعبها الفرقاء السياسيون ما زالت فصولها مستمرة رغم معرفتهم أن الرابح فيها سيرجع خطوات عدة إلى الوراء ليخسر من رصيده الكثير. فالأزمة السياسية التي يشهدها البلد ليست خافية على أحد ووصلت إلى حد قد يهدد بانفراط عقد الشراكة الوطنية، الذي تشكلت على أساسه الحكومة الحالية وفقا لاتفاق أربيل، وكانت المحصلة النهائية للأداء الحكومي هو إعادة إنتاج الأزمات سواء مع خصوم تقليديين أو حلفاء ستراتيجيين .
فما أن تلوح في الأفق بوادر لحل أزمة ما حتى تبرز علامات أزمة جديدة أشد وطأة من سابقتها فبعد الانسحاب الأميركي كانت قضية الهاشمي والمطلك تبعها الخلاف بين الإقليم والمركز حول العقود النفطية وقبلها كانت قضية مفوضية الانتخابات واعتقال رئيسها.وكانت القوى المتنفذة قد اتفقت على عقد ما اصطلح على تسميته المؤتمر الوطني أو الاجتماع الوطني قبل أشهرعدة، للخروج من الأزمة المستعصية التي سببتها سياسة المحاصصة والركض وراء المصالح الفئوية الضيقة بعيدا عن التفكير بمصالح الوطن العليا، دون أن يتم تحديد موعد لعقده حتى الآن، ومن الغريب أن اتفاقات الفرقاء السياسيين تحاط بسرية تامة ولا يعرف المواطن عنها شيئا ،أما خلافاتهم فيتم نشرها على الملأ ليعلم بها القاصي والداني رغم انعكاساتها السلبية على الشارع. فقد شكل المالكي حكومته الأخيرة عن طريق عقد تحالفات مع الكتل الأخرى وليس عن طريق صناديق الاقتراع ، وكتلته لم تحصل على عدد المقاعد المطلوبة التي يمكنها من تشكيل الحكومة بمفردها، الأمر الذي دفعه إلى تقديم تنازلات كثيرة، أضعفت حكومته منذ بدء تشكيلها، وفرضت عليه ترشيحات من قبل الكتل التي كانت سببا في مجيئه للسلطة وتم اختيار الوزراء توافقيا لا على أساس الخبرة والكفاءة. وكان من نتائج ضعف الحكومة الحالية عجزها عن تنفيذ برامجها المختلفة وبقاء الوزارات الأمنية بيد رئيس الحكومة، الأمر الذي يشكل رسالة غير مطمئنة لشركائه في العملية السياسية، أما بناء المؤسسات الدستورية فلم يتم بطرق مهنية، وتحولت الحكومة من كونها صاحبة برنامج لإدارة الدولة، إلى أداة للهيمنة على مقدرات البلد، وبدلا من أن تكون تجسيدا حقيقيا للشراكة الوطنية في بناء البلد تحولت إلى شراكة في المناصب والمكاسب ألقت بظلالها على المشهد السياسي وسببت تنافرا بين أقطابه.ورغم أن الحكم الديمقراطي يستند إلى قوانين دستورية ومؤسسات مستقلة، تنأى بالقائمين عليها عن ردات الفعل الآنية والعمل المرتجل، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور بوادر لهيمنة حكومية على الهيئات المستقلة مثل هيئة النزاهة ومفوضية الانتخابات والبنك المركزي! ضعف الحكومة الحالية التي يفترض أن تكون أكثر قوة من سابقاتها- بحكم تراكم الخبرة وتشخيص مكامن الخلل- ليس وليد اللحظة، رغم مرور تسع سنوات على تبني الدولة نظاما سياسيا جديدا، فالطبقة السياسية التي تشكلت بعد سقوط النظام لم تمارس العمل البرلماني من قبل ،إضافة إلى انعدام الحس الوطني لدى معظمهم ،وهم إما طلاب سلطة أو باحثون عن مناصب ينظرون إلى السلطة على أنها غنيمة لايمكن التنازل عنها وهم لايفكرون بمستقبلهم السياسي بقدر تفكيرهم بالامتيازات التي تؤمنها لهم تلك المناصب. أما البرلمان فقد كان سببا في تعميق الصراعات السياسية بدليل أن التشريعات لاتقر إلا بموافقة المتصارعين سياسيا، فضلا عن النقص الحاد في المنظومة التشريعية وضعف دوره الرقابي سواء في دورتيه الحالية والسابقة. وكانت المحاصصة خروجا على النظام البرلماني التقليدي وخلطا بين السلطات فقد مرر البرلمان مثلا، التشكيلة الحكومية الأخيرة بكل عيوبها ونواقصها وبقيت الكثير من المناصب الحساسة تدار بالوكالة .إضافة إلى كثرة الانشقاقات التي حدثت وتحدث في الكتل الكبيرة وظهور اصطفافات جديدة تشكلت هي الأخرى على أساس المصالح والمنافع المادية وليس على أسس وطنية. الكتل المشاركة في العملية السياسية تتحمل مسؤولية التشظي الذي تعانيه، وفي مقدمتها الكتلة الحاكمة كونها ارتضت لنفسها قيادة حكومة محملة بالأزمات وعدم قدرتها على حلها، فقد تعاملت مع شركائها في العملية السياسية وفقا لمبدأ الخنادق المتبادلة الذي تحول في ما بعد إلى صراع حتى بين حلفاء الكتلة الحاكمة أنفسهم. الحلول التي طرحت لحل الأزمة الحالية ثلاث، كان أولها سحب الثقة عن الحكومة وتشكيل حكومة أغلبية ،وقد تم طرح هذا الحل بالفعل بعد اللقاء الخماسي في أربيل، أما الحل الثاني فهو أن يقوم رئيس الجمهورية بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة .غير أن هذا الحل قد يعيد إنتاج نفس الأزمة. فالتعديلات الأخيرة التي أجرتها الكتل المتنفذة قبيل الانتخابات الأخيرة كرست هيمنة الكتل الكبيرة واستبعدت الكتل الصغيرة من التمثيل البرلماني، آخر الحلول وأكثرها قربا إلى الواقع هي عقد المؤتمر الوطني ومحاولة البحث بنيّة صادقة عن مخرج مناسب من الأزمة الحالية، بأن يضع الفرقاء خلافاتهم جانباً بعيداً عن الشد والجذب في لعبة جر الحبل التي لن يخسرها سوى المتمسكين بحبالها.
سياسة جر الحبل!
نشر في: 29 يونيو, 2012: 03:49 م