فريدة النقاش أعلنت حركة «احتلوا» الألمانية التي يتدفق أنصارها منذ أيام على فرانكفورت أن آلاف المتظاهرين تدفقوا على المدينة يوم السبت الماضي رغم محاولات الشرطة تفريقهم واعتراض طريق الحافلات التي تقلهم من بلدان أوروبية عدة.
وقد نظمت حركة «احتلوا الأوربية تظاهرتها لتتوافق مع اجتماع رؤساء الدول الثماني الصناعية الكبرى في كامب ديفيد في الولايات المتحدة الأمريكية للتداول حول أساليب درء الأزمة الاقتصادية الكبرى التي تتوالى تبعاتها منذ عام 2008 حتى الآن! وقد بلغت ذروة أخرى بفشل الساسة اليونانيين في التوافق حول البرنامج الاقتصادي التقشفي الذي تطرحه السياسات الأوروبية مقابل إنقاذ اليونان من الإفلاس. ورفض الناخبون اليونانيون كما رفض الناخبون الفرنسيون برنامج التقشف واختارت فرنسا رئيسا على هواها يطرح سياسة لتحفيز النمو وخلق الوظائف بدلا من التقشف، كما رفض اليساريون اليونانيون الذين فازوا بالمركز الثاني في الانتخابات البرلمانية التوافق مع أحزاب اليمين والوسط حول التقشف وباتت اليونان التي ستجري فيها انتخابات جديدة في السابع عشر من الشهر القادم مهددة بالخروج من منطقة اليورو التي ستتعرض لتصدّع كبير،وإن حدوث هذا الخروج سوف ينتج آثاره الاقتصادية والثقافية على العالم كله.وتدفع الرأسمالية العالمية الآن فاتورة انقلابها على السياسة الاجتماعية لدولة الرفاهية التي بدأها رونالد ريجان ومارجريت تاتشر في مطلع الثمانينات من القرن الماضي حيث جرى إطلاق العنان للسوق لتتحكم في كل شيء بصرف النظر عن الثمن الاجتماعي الذي تدفعه الشعوب من فقر وبطالة ويأس وانقسام اجتماعي غير مسبوق في أغنى الدول وأقواها،إذ يقول منظمو حركة «احتلوا وول ستريت» (شارع المال والأعمال في نيويورك) أن 1% فقط من الأمريكيين يستحوذون على النسبة الغالبة من ثروات البلاد، ويتراجع مستوى معيشة الغالبية العظمى من الشعب.وقد انتشرت الحركة كالنار في الهشيم في كل من أمريكا وأوروبا احتجاجا على التوجه النفعي الاستحواذي للرأسمالية الوحشية وعدوانها المتواصل على حقوق الكادحين وحرياتهم حتى إن مركزا للبحث توصل لنتيجة فحواها أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الآن أقرب ما تكون إلى دولة بوليسية بسبب الملاحقات للنشطاء وإعداد ملفات لهم بهدف مضايقتهم حتى أن البعض تحدث عن إحياء المكارثية.وكما سبق للشباب المصري قبل أكثر من عام أن استخدم وسائل الاتصال الحديثة لإطلاق ثورة 25 يناير، وحشد ملايين المصريين بعد ذلك لإنجاز أول أهدافها وهو إزاحة «مبارك» وأبنائه ومعاونيه عن السلطة، فإن حركة احتلوا تتبع نفس الإستراتيجية على مستوى عالمي.انتقلت فكرة احتلال الميادين من ميدان التحرير في مصر الذي أصبح مزارا عالميا، إلي وول ستريت في نيوريورك، إلي ميدان الشمس في مدريد وأخيرا إلي فرانكفورت مرورا بأثينا وعدد آخر من المدن الأوروبية وذلك احتجاجا علي سياسات التقشف التي تدفع ثمنها الشعوب بينما تتراكم المليارات في خزائن الأغنياء.ودون إعلان يطبق المحتجون الإستراتيجية التي كان قد وضع أسسها المفكر الاشتراكي الإيطالي انطونيو جرامشي قبل سبعين عاما وهي إستراتيجية حرب المواقع، والمواقع تعني في أحد التجليات الوصول إلى أصغر قرية أو مصنع وإطلاق الإمكانات الكامنة هناك مستهدفة بناء هيمنة الكادحين وقيادة العمال لهم على المستوى القومي حتى قبل أن يصلوا إلى السلطة السياسية، وفي ظل صعوبة الانتقال من مستوى النضال الاقتصادي إلى المستوى السياسي، وهو الانتقال الذي يستغرق وقتا وجهدا ممتدا بخاصة في الميدان الثقافي حيث صراع الرؤى والأفكار. لكن رؤى وأفكار وأهداف الكادحين بوسعها أن تهيمن دون أن تصل إلى السلطة السياسية مباشرة وإن كانت هذه الهيمنة تفتح الطريق لبلوغ الهدف السياسي أي الإطاحة بالنظام ولو على مراحل، وكانت حرب المواقع المصرية في الثمانية عشر يوما التي هي أيام ثورة يناير نموذجا يحتذي في العالم كله لإسقاط النظام على مراحل. وقد تعلم مناضلو العالم على اختلاف المدن والمنابع ومستويات النمو وطبيعة الأزمات- تعلموا من الدرس المصري لا فحسب في حرب المواقع وإنما أيضا في استخدام الشبكة العنكبوتية في التواصل والحشد، واندهش العالم أن يبرز هذا الأداء الرفيع بهذه الدرجة من الإتقان في بلد متوسط النمو مثل مصر مازال ثلث سكانها يرسفون في أغلال الأمية الأبجدية، والتفت العالم إلى حقيقة أن الشعب المصري الذي أبدع واحدة من أول حضارات التاريخ العظيمة والباقية قادر على أن يستدعي كل فضائله في لحظة تاريخية فاصلة ويقدم إبداعه الخاص في حرب المواقع والمراحل ليتعلم منها الجميع.
حرب المواقع
نشر في: 29 يونيو, 2012: 04:48 م