شاكر لعيبي (1-2) ثمة فارق دلاليّ في استخدام التعبيرين (العمارة البغدادية) و(العمارة في بغداد). الأول يمنح سمات خاصة للعمارة في المدينة، والثاني أكثر حياداً. لقد ذهب الأول مجرى البداهة التي تقترح منذ البدء خصوصية كاملة للعمارة التراثية في العاصمة، فراح يُمايزُها عن العمارة المسماة تراثية أيضا في باقي أنحاء البلاد وما يجاورها من البلدان. يفترض تعبير العمارة البغدادية وجود خصائص مختلفة، أسلوبية وجمالية ووظيفية، لنمط البناء السكني في مدينة بغداد، ليصير بالتالي مصطلحاً ثقافيا رائجاً.
السؤال هو: هل هناك أنماط معمارية مختلفة تميّز العمارة المسماة بغدادية عن (العمارة البصرية) و(العمارة الموصلية) مثلاً؟ السؤال يقبل منذ البدء الاختلافات القادمة أصلاً من مواد البناء المتيسّرة، لكنه يركّز على مساءلة تخالُف أو لا تخالُف العناصر المعمارية الأساسية هنا وهناك. بين العمارة التقليدية في البصرة و(العمارة البغدادية) لن نعثر تقريباً على أي اختلاف جوهريّ، رغم ما قيل من اختصاص البصرة بالأعمدة الآجرية الخارجية وكثافة استخدام الأعمال الخشبية في الواجهات واستخدام الزخارف المعدنية بكثرة، كما امتزاجها بالفنون الهندية خاصة. لنقل منذ الآن أن التأثير الهندي حاضر، منذ وقت بعيد، في استخدامات محددة، كأعمال الخشب وطراز النقش على الأبواب، في العمارة العراقية التراثية والخليجية جلها بما في ذلك عُمان واليمن. وهذا ليس جوهر الموضوع. لن يتعرف أحد على مميزات خاصة عن العمارة البغدادية عند مقاربتها مع عموم عمارة البصرة التراثية التي يمتاز بيتها التقليدي من جهته بوجود ساحة داخليـة مكشوفـة هي "الحوش": المكان الأول في التخطيط، وهو محور المنزل وتنتظم حوله معظم الغرف والمرافق. هذا بغض النظر عن التسميات المحلية للقسم الأمامي المكرّس للضيوف (البراني)، والقسم الخلفي (الدخلاني). من خصائص البيوت البصرية وجود المدخل المنكسر المعروف بـ(المجاز) الذي يوصل المدخل بالباحة المكشوفة (الحوش) المستخدم لكي يعزل فضاء الباحة عن الزقاق، وتكييف الهواء، الأمر المعروف في جل البيوت التقليدية في العالم العربي. ثمة أيضا (الطارمة) المسقفة والمفتوحة من جهة الباحة الداخلية وهي مجلس مصغّر. ويوجد السرداب لقضاء أيام الصيف. تجري تهوية السرداب بواسطة فتحات صغيرة جانبية تكون عادة في مستوى الباحة الداخلية المكشوفة، وكذلك من أبواب المدخل والسلالم المؤدية إليه، أو عبر الملقف = البادكير. (الآجر) هو العنصر الرئيسي في البناء كما في بغداد. يمتاز البيت البصري بارتفاع سقف غرف الطابق الأول ووفرة الشبابيك فيه وارتفاعها، خصوصاً في الواجهات التي تشرف على الشوارع لمنع الإطلالة عليها . تعتبر الشناشيل من الظواهر البارزة في البيوت التراثية البصرية. إن بيت عبد اللطيف الباشا المنديل (1925) في زبير البصرة مثلاً لا يفترق عملياً عن أي بيت تراثي بغدادي أرستقراطي، رغم اختلاف بعض التفاصيل والتأثيرات المستحدثة فيه كاستجلاب مادة السمنت الجديدة يومها لأساساته، والنقوش البارزة التي تم استيرادها من بلجيكا له. إن مخطط البيت في العمارة البغدادية لن يحيد عن مخطط البيت البصري، في كلا التصميمين الخارجي والداخلي. كان البيت البغدادي يتألف بدوره من جناح يحتوي على (إيوان) تحفُّ به من الجانبين حجرتان أو أكثر. أهم ما يميز البيت التقليدي هو وجود (الفناء) ذاته، أو أكثر من فناء يتوسط بعضها حديقة صغيرة ونافورة. وقد خُصّص بيت للرجال وآخر للنساء وثالث للخدم. وقد يلحق ببعض البيوت الكبيرة محل خاص لإيواء الخيول. يقوم الإيوان على ثلاثة أعمدة من الخشب (دِنَكْ، دنكة). في التصميمين ثمة الشناشيل، والعقود متنوعة الأشكال ذات التيجان المزخرفة، ومراعاة الظروف المناخية وجعل الشبابيك المطلة على الخارج قليلة الفتحات، وجعل الفسحات المكشوفة متجهة وسط الدار من أجل توفير طقس طري ونور وفير. إن ثنائية (الفضاء/ المناخ) التي تُعتبر من أبرز خصائص العمارة البغدادية هي همّ بارز للعمارة الحضرية في جميع أنحاء البلاد تقريباً، لأننا نجد في البصرة والموصل وبغداد "السرداب" عينه، ثم الملاقف (البادكيرات) للتهوية الطبيعية ما عدا في الموصل لعدم حاجتها إليها.
"العمارة البغدادية" أم العمارة في بغداد؟
نشر في: 29 يونيو, 2012: 06:13 م