عواد ناصرلن يعني موت بائع كتب أحداً، ربما لن يترك إشارة ما خلفه، ولا تلويحة وداع حتى، فهو بائع كتب لا غير، لا يعرفه كثيرون غير من ساقتهم المصادفات إلى عربته/ المكتبة عندما بدأ حياته بائع كتب جوالاً، وهو يعرف الكثير سواء عن الكتب أو صنّاع الكتب، الذين لا يعرفونه بدورهم.
يحيل ألبرتو ميغيل، الأرجنتيني الورّاق، صناعة الكلمات الأولى، مرسومة ومكتوبة، إلى السومريين، حقيقة لا مراء فيها، ولا شك أن ذاك الورّاق المهووس بالكتب والكتابة والقراءة (تاريخ الكتابة – مؤلفه الرائع) أشار ضمناً إلى واحد من ورثة السومريين وهو الراحل نعيم الشطري.على عادة باعة الكتب فهو يعرف عن الكتب والكتاب أكثر بكثير من صناعها، ومن يدعون هذا، وتجربتي الشخصية تثبت أهم كذلك فعلاً.عند زيارتي الأخيرة للعراق/ بغداد لا بدّ لي من شارع المتنبي وإن طال السفر، وهناك، عند مدخله من جهة شارع الرشيد، وفي الركن الأيمن، بالضبط، سألت بائعاً للكتب عن كتابين أو أكثر، من كتبي الأثيرة التي افتقدتها – افتقدتها بسبب الكتب طبعاً – فتعهد الرجل، الذي لم أعرف اسمه مع الأسف، بأنه سيحضرها لي يوم الجمعة المقبل، حيث أكون في ذلك اليوم قد غادرت البلد.الكتابان، أو أكثر، اللذان سألت عنهما البائع لم يسمع بهما أحد ممن سألت من يدعون الاشتغال بكتابة الكتب وقراءتها وصناعتها!باعة الكتب يعرفون الكتب أكثر منّا، لكنهم لا "يستعملون" هذه المعرفة إدعاء ثقافة أو وجاهة أو شهرة.. إنهم يعرفون الكتب، حسب.بدأ نعيم الشطري حياته الورقية مأخوذاً بالكتب، ولولا هذا لما انغمر بجمعها واستيرادها وترويجها، حتى باتت مبرر حياته، لكنه لم يصبح ناشراً ولا تاجراً ولا شاعراً، لكنه بقي "ثائراً" بطريقة الخاصة، وقد هرب من جدية الفكرة إلى هزل الشارع العام، فجميع من عرفوه أقروا بسرعة بديهته وظرف تعقلياته وحسن معشره، بعد أن أوردته "جديّة الفكرة" و"قسوتها" مورداً خطراً: السجن!ليس بالعراق، وحده، تورث الكتب – قراءة أو كتابة – من يمارسها أكثر من "وجع الرأس" فثمة أمم أخرى حارت بالكتب فمنعت وحرقت وصادرت، تلك الأمم التي ابتليت بسلطات، حاكمة أو متنفذة من حواشي السلطات ومؤيديها، لأن من بين أخطر من يهدد "استقرار السلطة" و"أخلاق المجتمع الفاضلة" هو الكتب، لكن نهاية هذه الحرب غير المقدسة وغير المتكافئة يعقد الظفر، في النهاية للورقة على السيف.. للمفارقة: يمكن لنصل الورقة المجردة أن يجرح ويسيل الدم!يروي ألبرتو مانغويل في كتابه: "في إحدى الجلسات قص عليّ بورخيس حكاية التظاهرات الشعبوية التي نظمتها حكومة بيرون (الأرجنتين) عام 1950 ضد المثقفين المناوئين للحكم حيث كان متظاهرو الحكومة يهتفون: "أحذية نعم.. كتب لا" بينما الهتاف المضاد كان "أحذية نعم، كتب أيضاً". إن الحكومات الشعبوية تطالبنا بأن ننسى، لذا فإنها تدمغ الكتب بأنها بهرجة لا حاجة إليها، أما الحكومات الشمولية فتطالبنا بالتوقف عن التفكير، لذا فإنها تمنع العقل وتلاحقه وتخضعه لمقص الرقيب. إن النظامين يريدان جعلنا أغبياء وإخضاعنا مما يجعلهما يشجعان استهلاك القمامة التلفزيونية، وتحت هذه الظروف لا يمكن للقراء إلا أن يكونوا مخربين".نعيم الشطري الذي صار لون وجهه قريباً من لون الكتب، تحت شمس عراقية لاهبة، وهو نوع من "التناص" كما يقول البنيويون.صحيح أن الشطري وجه شهير في ذاك الشارع البغدادي الشهير لكن شهرته، على محدوديتها، ليست مثيرة للجدل، مثل شهرة شهيرين وشهيرات لأسباب أخرى غير الكتب والكتابة والقراءة.. بل بسبب "القمامة التلفزيونية".رحم الله الشطري الذي ظل مقيماً في الشارع ومكتبته الرصيف.. وأوصى أن يشيع من هناك!
نعيم الشطري أقام في شارع المتنبي وشيّع من رصيف الكتب
نشر في: 29 يونيو, 2012: 06:54 م