سليمة قاسمبعد نقاشات طويلة تخللها الكثير من الحذف والإضافات، تم إقرار الموازنة العامة للعام الحالي، التي مرر معها السادة النواب تخصيصا بمبلغ 50 مليون دولار لشرائهم سيارات مصفحة، الأمر الذي أثار ردود أفعال غاضبة في الأوساط الشعبية ، اضطر بعدها النواب إلى التصويت بأغلبية ساحقة على مناقلة مبالغ السيارات المصفحة إلى أبواب أخرى لم يتم تحديدها بعد. ويرى الكثيرون في هذا التخصيص محاولة لتمرير أمور خطرة تضمنتها بنود الموازنة لا يفهمها إلا الراسخون في العلم.
لعل قلة تخصيصات الاستثمار في موازنة العام الحالي تعطينا فكرة واضحة عن عدم قدرتها -كسابقاتها- على تحقيق تنمية حقيقية في البلد وإعادة الحياة للصناعة الوطنية ، في ظل اقتصاد ريعي يعتمد على واردات النفط واستيراد كل ما يحتاجه البلد من الدول التي تنتعش اقتصادياتها نتيجة لذلك. وقد تضمنت الموازنة ولأول مرة في تاريخ العراق، فقرة تنص على تخصيص 25% من فائض الموازنة لتوزيعها على المواطنين،قدّر البعض قيمتها بحوالي مئتي دولار للمواطن الواحد، ولكن استنادا إلى نسبة العجز في الموازنة واشتراط سداده قبل توزيع المبالغ قلص قيمتها إلى حوالي خمسين دولاراً فقط للمواطن الواحد.بغض النظر عن مقدار المبلغ الذي سيحصل عليه المواطن، فإنه سينقفه لشراء ملابس وأغذية وغيرها من البضائع المستوردة، ليتسبب بأضرار كبيرة للاقتصاد المحلي دون أن ينفعه من خلال مضاعفة الاستيراد في ظل غياب المنتج المحلي ، الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة نسب التضخم عند ضخ كتلة نقدية كبيرة في وقت واحد، وارتفاع كبير في أسعار السلع والخدمات كما حدث فعلا عند زيادة رواتب الموظفين وتوزيع قروض الإسكان. تخصيص فقرة في موازنة العام الحالي تلزم الحكومة بتوزيع مبالغ للمواطنين تدل على ضعف الخبرة الاقتصادية لدى واضعيها، ومحاولتهم كسب رضا الجماهير بوضع حلول آنية قصيرة الأمد على حساب المصلحة الاقتصادية بعيدة الأمد. فما الذي سيفعله مبلغ خمسين دولارا في حياة المواطن الذي يدفع مبالغ شهرية كبيرة للحصول على الكهرباء والخدمات الأخرى، لكنه قد يسهم بمجموعه في تحسين المستوى المعيشي لذوي الدخل المحدود بشكل آخر فيما لو تم استثماره مثلا في تأسيس مصرف تنموي برأس مال كبير أو لبناء مساكن للفقراء أو تحسين مفردات البطاقة التموينية أو زيادة تخصيصات شبكة الرعاية الاجتماعية.موازنة العام الحالي ضمت بنوداً أخرى يبدو للوهلة الأولى أن الهدف منها هو دعم المواطن ماديا على المدى القريب عن طريق إطفاء الفوائد غلى قروض الإسكان والمصرف العقاري والزراعي، لكنها تضر هي الأخرى باقتصاد البلد، فتلك الفوائد تعني استثمار رأس المال واستغلاله في مشاريع دون أن تتم زيادته أو مضاعفته وفقا لقاعدة تشغيل رؤوس الأموال .توزيع جزء من عائدات النفط على الشعب يعطي مؤشرات واضحة على عدم قدرة الحكومة -التي تتولى تخصيص أبواب الميزانية -على تلبية احتياجات مواطنيها الأساسية وفي خلق مشاريع إنتاجية لتدوير عجلة الإنتاج وتوفير فرص عمل للعاطلين. وهو اعتراف ضمني من الحكومة -حين أقرت بنود الموازنة-بعدم قدرتها على حل المشاكل الاقتصادية التي تواجهها وعشوائية الحلول التي اتخذتها للمعالجة.مقارنة بسيطة بين الامتيازات التي يحصل عليها النائب وما يحصل عليه المواطن، تشعره بغبن كبير من قبل حكومة منتخبة كان هدفها الأول خدمته لكنه وجد نفسه في أسفل قائمة اهتماماتها، وحين يخير المواطن اليوم بين منحه نقوداً قليلة-سيحصل عليها مع إقرار الموازنة التكميلية مطلع حزيران القادم- وبين إقامة مشاريع تخدمه على المدى البعيد، فإنه يفضل النقود رغم قلتها ،وسط ما يسمعه يوميا عن حالات الفساد والمشاريع الوهمية واختلاس مبالغ بلغت مليارات، خوفا أن تبتلع مافيات الفساد حصته التي لن تتجاوز الخمسين دولاراً في أحسن الأحوال ، فيما لو تمّ جمعها واستثمارها في مشاريع تنموية، لينطبق على حالته تلك المثل الذي يقول "عصفور في اليد خير من عشر على الشجرة!
خمسون دولاراً على الشجرة!
نشر في: 1 يوليو, 2012: 06:54 م