علي حسينكان حسني مبارك يتظاهر بأنه غير مبال بالمحكمة عندما قرئ عليه الحكم بقتل المتظاهرين في موقعة الجمل.. لكنه ما أن نقل إلى سجن "طرة" الشهير حتى صرخ بوجه حراسه: " ظلموني .. حسبي الله ونعم الوكيل".
اكتشف سيادة المشير أن الشعب ظلمه حين خلعه من الحكم، الرئيس الذي تربع لثلاثين عاما على كرسي الرئاسة ظل يؤمن حتى الساعات الأخيرة ان حكمه باق ومزدهر. تصور مبارك أن رقدته على السرير ستنقذه، فهو قد تعود الالتصاق بكل شيء، ظل 30 عاماً يحارب من اجل أن يسلم كرسيه إلى ابنه المدلل كي يلتصق به ثلاثين عاماً اخرى، المهم ان يظل الشعب "يتسلى" بعيدا عن جدران القصر.. أوهم نفسه بان العناية الإلهية معه ولم يجد جوابا حين سأل مرة عن خليفته في حكم مصر إلا أن يقول: "الله وحده يعلم من سيكون خليفتي، وأنا أفضل من يفضله الله". ‎ ومثله مثل العديد من قادة الجمهوريات العربية يعتقد مبارك أن العناية الإلهية هي التي تختار الرؤساء وهي وحدها من تملك الحق بابتعادهم عن الكرسي، ولهذا فلا علاقة للناس باختيار الحاكم فهذا شأن مقدس لا يجوز الاقتراب منه .في مقابل صورة حسني مبارك ذليلاً مهاناً والتي بثتها وكالات الأنباء لمبارك، شاهدنا صور البريطانيين وهم يحتفلون بمرور 60 عاما على جلوس الملكة اليزابيت على كرسي العرش.. لم تقل الملكة يوما إنها وريثة السماء، ولم تطلب من الناس الهتاف بحياتها .. لكنها تشعرهم دائما أنها معهم وقادرة على أن تصبح جزءا من التغيير والتطور الذي يشهده العالم .. كيف استطاعت هذه الملكة العجوز أن تحظى بكل هذا الحب والتقدير، يقول وزير خارجية بريطانيا في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط:"إن السبب الذي جعل المملكة ناجحة وقادرة على البقاء كل هذا الوقت هو قوة مؤسساتنا. لدينا مؤسسات لها تاريخ طويل، سواء المؤسسة الملكية أو هيئة الإذاعة البريطانية أو البرلمان أو وزارة الخارجية. لدينا الكثير من المؤسسات القوية والمحترمة التي بنيت على المدار الطويل ولم تهدم من قبل حركة سياسية أخرى". قبل ثلاثة وأربعين عاما نفى ديغول نفسه إلى قرية في الجنوب كي يكون بعيدا عن مجرى الأحداث هناك يكتب في مقدمة مذكراته “لاشيء أهم من فرنسا مستقرة“، كان لا يملك اكثر من أن يمازح الفلاحين حول محاصيلهم، ويجلس ليسطر، مذكراته التي اسماها ”مذكرات الأمل” الأمل بفرنسا أكثر تطورا وازدهارا وعافية. ‏ لم يكتب نيلسون مانديلا كلمة واحدة في مذكراته عن الظلم الذي لحق به، بقدر ما كتب عن التسامح والحب: "في أحلك أوقات السجن حينما كنت أساق إلى حافة القدرة على الاحتمال كنت أرى وميضا من الإنسانية في احد الحراس، ربما لمدة ثانية، لكن كان ذلك الوميض يطمئنني". تزدهر الأمم بقادة يصرون على إشاعة روح التسامح والأمل والعدالة الاجتماعية وبسط سلطة القانون، بينما نغرق نحن مع ساسة لا يتوقفون لحظة واحدة عن بث الخوف والفزع في نفوس الناس لو أنهم طالبوا بتداول سلمي للمسؤوليات والسلطة. ‎ في عراق اليوم يصر المالكي ومعه مقربيه على المضي قدما في إعادة إنتاج نظام دكتاتوري جديد، إنها نفس الرحلة التي قطعها قادة الجمهوريات العربية الحديثة، حين أصبح كل واحد منهم يعتقد نفسه لسان الشعب وحال الشعب والحاصل على تفويض الشعب، لتكون النتيجة في النهاية انهم يلغون الشعب بأكمله. هكذا تسير الأمور عندنا على هوى المسؤولين وليس على قواعد بناء دولة حديثة لا تتغير مع اتجاهات حكامها، ولا تتلون بلون الغالبية المؤقتة. دولة للجميع وليس للراقصين على الحبال وتجار الانتهازية والمحسوبية وسراق المال العام. اليوم جنرالات الحكم عندنا يصرخون بأعلى صوت بأنهم ظلموا، وان من يفكر بالخروج على طاعتهم فقد خان الوطن والأمانة.. المالكي ومن معه يعدون وصفة جديدة لانتاج نظام مستبد شعاره "ظلموه".
العمود الثامن: "ظـلـمــــوه"
نشر في: 1 يوليو, 2012: 07:01 م