د. فاضل سودانيrnالتقت الفتاة الإنكليزية لورنا بجواد سليم في مدرسة سليد للفنون الجميلة في انكلترا عام1946 ، ذلك الفنان العراقي المتمرد على الأنظمة المدرسية المتزمتة، محاولا أن يمتلك تلك الروح الفنية ـ البوهيمية من أجل إغناء مستقبله الفني.
ومن اللقاء الأول أدركت الفتاة بأنها أمام إنسان مختلف عن الآخرين بكل شيء .rnبعد أن أنهى جواد الدراسة في سنتين بدل من ثلاث وحانت عودته إلى العراق عام 1949 صارحها برغبته في الزواج، ومن بغداد كتب لها ( لا أدري لماذا دعوتك للمجيء الى هذا المكان المستعر مثل فرن كبير ، حيث الغبار يغطي الأشجار وحافات النوافذ وأهداب العيون وكل شيء ) . فتركت لندن وعائلتها وعملها في التدريس وأقلت الطائرة المتوجهة الى بغداد جواد سليم لتبدأ حياة غريبة كأنها حلم طويل يشاركها فيه فنان مبدع.rnكان قلب بغداد رحبا في تلك الأيام للأبناء والغرباء كما تقول لورنا حيث لم يجبرها أحد على لبس العباءة أو الالتزام بالتقاليد العراقية، أو لم يعترض أحد ما على المعلمة الإنكليزية لورنا التي كانت تقطع شوارع بغداد بدراجتها وهي مذهولة ومندهشة بحياتها الجديدة. وحتى يعيش كان جواد يعمل ويدرس في ثلاثة أماكن في بلد غني مثل العراق . rnوقد كانت طبيعة العلاقة بين لورنا وجواد ليست كزوجين أو حبيبين فحسب وإنما كفنانين متنافسين أيضا، فقد كان يؤمن بأن الفن لا يمكن حصره في المعرض أو المتحف وإنما يجب أن يلتصق بالناس، ومن هنا أتت فكرة أن يكون نصب الحرية في ساحة التحرير.rnفقد استطاع محمد مكية إقناع المسؤولين بعد ثورة 14 تموز بفكرة النصب وتحمس لها المرحوم الزعيم عبد الكريم قاسم، من أجل أن يرى العراقيون يومياً تاريخهم ومستقبلهم منحوتا أمامهم. وعند مقابلة الفنان جواد لرئيس الجمهورية أيقن بأنه أعطاه مسؤولية كبيرة ليس أمامه فحسب وإنما أمام الشعب العراقي. rnوتذكر المؤلفة أنعام كجه جي في كتابها (لورنا .. سنواتها مع جواد سليم) الكثير من معانات جواد سليم وزوجته التي رافقته إلى إيطاليا ، وكذلك القلق والجهد وهو يحاول أن ينجز تاريخ العراقيين نحتاً حيوياً في الصخر، فرقد في المستشفى الإيطالي وهو مصمم أن ينجزه في الوقت المقر ونجح في أن يرسل منحوتاته إلى بغداد مشحونة من فلورنسا .rnوكاد الفنان أن يرى حلمه يتحقق حينما بدأت القطع البرونزية الضخمة تعلق على واجهتها المرمرية الضخمة التي أنجزها المعماري رفعة الجادرجي وسط بغداد. وبالرغم من أن النصب كان هدية الفنان للعراقيين لكن قلبه لم يتحمل حتى النهاية. فتوقف في كانون الثاني عام 1961 .rn ومن أجل هذا تكفلت زوجة الفنان وأصدقاؤه وتلاميذه إنجاز النصب، فهي التي تعرف جميع تفاصيل العمل بدقة متناهية. وتقديرا لجهودها واحتراما لإبداع زوجها منحها رئيس الجمهورية الجنسية العراقية على الرغم من أنها كانت تتوقع تعينيها بوظيفة ما أو منحها بيتاً عراقياً تسكن فيه .rnوبعد رحيل الفنان استمرت الفنانة ترسم عكس الزمن فلم يمنعها أحد ما، ولم يعقها صبية بغداد الذين يحيطونها مندهشين لرؤيتهم زوجة الفنان البريطانية تجلس وسط الشارع لترسم تلك التفاصيل الدقيقة للشناشيل والبيوت البغدادية .rnوبما أن بغداد تغيرت وجواد لم يعد هناك فقد فارقها إلى الأبد إضافة إلى ظروفها الاقتصادية الصعبة تقرر زوجة الفنان لورنا سليم الرجوع إلى بريطانيا نهائياً عام 1971 لتعيش في جنوب ويلز، حاملة في جوانحها ذكريات لأكثر من عشرين عاما عن العراق عاشتها تحت وهج الشمس البغدادية ولم تحمل معها سوى روح جواد سليم الفنان والإنسان، متمثلة بلوحتين وأحلام مدينته البغدادية الغريبة.rnهذا كله يدفعنا إلى إعادة الاعتبار لنصب الحرية ولمبدعه جواد سليم. rn فهو لم يكافأ على جهوده في نصب الحرية إلا بثلاثة آلاف دينار وعائلته لم تكافأ إلا براتبه التقاعدي المكون من 26 ديناراً آنذاك. هل العراق دائما يهمش أبناءه المبدعين والمخلصين؟. غريب هذا العراق .
لورنا سليم زهرة الأسرار العراقية
نشر في: 1 يوليو, 2012: 08:06 م