محمود النمر الشاعر ياسين طه حافظ يمتلك كماً من المجاميع الشعرية عبر خمسة عقود مضت ، شامخا بقامته الشعرية التي لم تنضب ، إضافة إلى كونه مترجما له من الترجمات ما يجعله علامة من العلامات الترجمية في خارطة اللغة العربية.
حينما يدخل الشاعر من أصابع اللغة بلا استئذان ، ويتمكن من المناورة في سرعة الانتقال من لغة إلى لغة أخرى، في هذه المجموعة يخلع ياسين طه حافظ ، كل قمصانه المولونات ليدخل إلى محراب اللغة عاريا، لمواجهة قصيدة النثر ، مثلما هي عارية ٌ تنتظر من يطرز جسدها بالنور ، لتتخذ منه عاشقا يعيد لها اعتباراتها في ملكوت اللغة ،ويجعل استثناءاتها واجبة وهي تخطو في حدائق الكلمات ، فيمنحها قصائدَ واثباتٍ – حالمات ٍ– ساكنات ٍ– يمرقنَ على الألسن بطعم التفاح- ويتلفتن َ كالعاشقات ِالصغيراتِ ، وهنَّ معبئاتٌ بالشهوة ، ينتظرن َّ من يطوق خصورهنَّ للرقص في الصباحات الربيعية .حين تفلت الرغبات من سجنها / تغير أشكالها قبل أن تحط وتختار حقلاً.. / فأنتِ دائما تتركين دقيقة تتأكدُ فيها الروح / قبل أن ترفعي قدمكِ لعبور العتبة .يمنحنا الشاعر ياسين طه حافظ ، إيحاءات أولية لكسر طوق الظن للوصول الى اليقين بأن هناك قصائد حب على الجدران الآشورية ،المعبأة بالموت والأسلحة والدمار ،كما هو معروف عن الحضارة الآشورية التي تتميز بالحروب وترسم فنونها على الجدران وانعكاسات هواجس الحروب وأشكالها مجسدة بالعربات القتالية، ومشاهد حربية، وثيران وجنود مدججون بالأسلحة ، يعني ذلك أن القساوة والحروب معبئة بالفن الآشوري من عدوانية خالية من الأجواء التي توحي باستخدام هذا الفن الرفيع لمعالم المعرفة كما هو في الفنون السومرية والبابلية، التي تنشد فتح آفاق جديدة للحكمة ، فقد كانت الرُقم والكتابات الموجودة في المكتبات الآشورية ، اغلبها تجارية وتنظيمات إدارية وعسكرية ،فلا وجود لشيء اسمه – الحب – على الجدران الآشورية ،وهذه هي المفارقة التي جسدها الشاعر في هذه المجموعة .وهج الله شبَّ بجنحي البجعة / فطارتْ .. / لتحط على بحيرتي الساكنة / ذلك ما كتبتُه يوما حين تركت المنصة / لتنزل وتجلس جواري على وشك التقبيل ! / لم تكن بيننا جلسات مسائية /ولا مواعيد / ولا حتى نظرات ٌ ذهبية ٌ راعشة/ فكيف شب الوهج الإلهي بجنحي البجعة/ لتطير وتحط على بحيرتي الساكنة؟ .الشاعر ياسين طه حافظ في قصائد حب على جدران آشورية وظف المفارقة، فهو انزياح متعمد في شكل القصيدة، في هذا العالم القاسي يوجد حب.. فأي حب ممتحن؟ - وأي تراجيديا هناك إذن؟ - في عالم بهذه القساوة، وهذا اليأس توجد قصائد حب ! ،فالإنسانية كانت معبئة ومخفيّة خلف الأسلحة والثيران، ذاهبة الى ضفة الموت، بلا رائحة للحب في قلوب متحجرة.الديوان هي محاولة لإعادة الاعتبار الى قصيدة النثر ، وقد كنا ننتظر من قصيدة النثر أن تقرّب الشعر من الجمهور ، ولكن ما حصل عكس ذلك بسبب من الإفراط في اللغة الاستعارية والتهويمات وانعدام التجربة الشخصية . تمكن الشاعر حسب ظني من أن يقرّب الشعر من الجمهور النافر من تلك التهويمات وان يردم تلك الفجوة ، وقد استفاد من لغة النثر القريبة للناس ،وكذلك من السرد في تكوين القصيدة ،واستفاد من الغنائية حتى يقرب القصيدة من مشاعر القارئ ، وصار التركيز على الدلالة وعلى المضمون ،وهذه الدلالة جعلها.. بقدر ما هي بسيطة، توحي بجملة ابعاد ، يعني ذلك ان القارئ العادي يفهم شيئا ، والقارئ المتوسط يجد شيئا آخر ، والمثقف المتأمل يجد ضالته التي ينشدها من خلال الدخول الى عوالم القصيدة النثرية الحديثة ، وهذا الوعي النقدي لدى الشاعر ربما جاء بقصدية منه للتخلص من أدران الإشكالات والتهويمات التي عتمّت على القصيدة النثرية العراقية لدى بعض الشعراء .يتعمد الشاعر عدم تسمية القصائد ويرمز لها بالأرقام ، ويضعنا أمام دلالة خاصة تشير إلى أن ياسين طه حافظ منح الديوان اسما واحدا لكل القصائد ، مستفيدا من تسلسل الأرقام ، وكأنه يريد أن يمنحنا بعدا زمنيا آخر في تقنية الأرقام ، وتحويل المنهج التاريخي الى منهج رقمي ،وهي إحالة قصائد آشورية موغلة بالقدم، الى أرقام معدودة في تقنية الحاضر، لكي تتواءم مع روح العصر الذي ينشده الشاعر . في مقدمة الديوان "كتابات قبل القصائد" يقول الشاعر قالت لي فجأة : لقد اقتسمنا أشياء كثيرة ، وسنقتسم مذاق الساعة الآتية .فحين يكون عالمنا مشوها ومدججا بالأسلحة ، هل لنا غير الحب منقذاً؟ تعال نقرأ هذه القصائد المنقوشة على جدار آشوري رسوم العسكر والثيران المجنحة والعربات ، قد لا تكون الكتابة واضحة ،قد تكون ممحوة قليلا ، متخفّية من خوف، لكن أَزحْْ التراب عن حروفها، ستدهش وقد تعود عاشقا تكتب قصائد حب مثلي ...هذه المجموعة النثرية هي مجموعة لوحات ملونة زاهية على جسد اللغة&am
شاعـر يخلـع قمصانــه الملوّنـات للنثر
نشر في: 2 يوليو, 2012: 06:26 م