هاشم العقابي لا أظن أن المصريين، قبل ربيعهم، قد مر ببالهم ان ميدان التحرير سيجتذب السياح بأعداد تضاهي اولئك الذين تجذبهم اهرامات مصر ومعالمها السياحية. وان كان من المعتاد ان يهرب الأجانب حال سماعهم بخروج تظاهرات ضخمة في أي بلد، خاصة إذا كان عربيا او شرق أوسطيا، نجدهم اليوم، بالنسبة للحالة بمصر، يعملون العكس. فما من مظاهرة كبيرة تخرج بميدان التحرير، الا وتجدهم يحملون الكاميرات لتصويرها والتقاط صور تذكارية مع المتظاهرين.
حتى انا الذي كنت أتجنب الحضور لميدان التحرير لانه يذكرني بقتيلنا هادي المهدي الذي كان قد اعتلى المنصة هناك وهتف بالمتظاهرين قبل عام تقريبا، صرت اذهب اليه. وان كان الإنسان لا يحتاج الى كثير من التأمل ليفهم سبب الفرح على وجوه الأجانب برؤية شعب يمارس حرية التعبير عن رأيه بطريقة سلمية ومتحضرة، احتار كثيرا في فهم مشاعري. انها خليط من الحزن والفرح الذي يتحول في صدري الى حسرة حارقة. ربما أنا حزين لان ساحة التحرير ببغداد موحشة بعد تصفية هادي. ولا اظن انها ستنزع ثوب حزنها ووحشتها عن قريب. غنيت مستغلا ضجيج أصوات المتظاهرين حتى لا يسمعني احد: "جانن ثيابي علي غربه كبل جيتك .. ومستاحش من عيوني". صرت كما اليهذي مع نفسه، فأتساءل: كيف مرت ببالك هذه الصورة يا مظفر؟ ثم كيف اهتديت الى قول: "مو حزن لكن حزين"؟ فهل مرت بك لحظة مثل هذه التي أنا فيها الآن؟أتعبني حديثي مع نفسي فاحتجت للجلوس. وما اكثر المقاهي المؤقتة على ضفاف ميدان التحرير وقت المظاهرات. اخترت أحدها بسهولة. جلست فاقترب مني النادل: أأمر يا سعادة الباشا؟ شاي كشري. جاءني به مسرعا ثم سألني: حضرتك منين؟ عراقي. أحلى ناس. اردت ان أساله: هل انت متأكد؟ لكني استغفرت ربي وأجبته: شكرا. جلس بقربي، وسأل: من وين بالعراق؟ عرفت انه قد عاش بالعراق طويلا من خلال اتقانه للهجتنا، فاجبته: بغداد. رد: احلى ناس. شكرا.يبدو انه وجدني فرصة سانحة يختبر فيها إتقانه للهجة العراقية فاخذ يحدثني عن حسنات العراقيين. من بين ما قاله: انتم أول شعب لم نشعر خلال وجودنا معه بالغربة. وانتم اول بلد حتى لو لم نعمل نعيش فيه أغنى عيشة. و .. و .. الى أن قال: وانكم اول بلد عندما نخرج "للمسطر" للبحث عن عمل نجد أبناءه ينافسونا فيه رغم انها شغلة تعبانة. وليسند كلامه قال: لقد زرت بلدان الخليج كلها فلم اجد كويتيا او سعوديا او إماراتيا نافسنا في "مسطر". سألته: وهل هذا فخر لنا ونحن أغنى بمواردنا من كل الذين ذكرتهم؟ قال:معرفش يا بيه. قلت له: انا اعرف، فرحمة على ابوك يا ريس دُلّني الطريق الى النادي اليوناني، فدَلّني عليه. وهكذا كنت بواحدة فخرجت باثنين. وتذكرت وانا في الطريق انه حتى العراقيات صرن اليوم ينافسن الرجال على الوقفة في "المسطر". اننا شعب "المساطر" يا جدع وميزانيتنا لا تدانيها ميزانية. مالت بواجي ولطم روحي. ويكولون غني بفرح. ويكولون "شعندك ويا المالكي؟"!وصلت النادي فجاءني "البوي": طلبات حضرتك؟ كأس سم. ليه لا سامح الله؟ ثم احنا معندناش سم يا معالي الباشا. آتني بكأس "اوزو" وضاعفه. ابتعد قليلا، ثم عاد وسألني بطريقة قريبة من اللهجة العراقية: انت عراقي؟ لا.
سلاما ياعراق :ثرثرة على ضفاف التحرير
نشر في: 2 يوليو, 2012: 06:50 م