ناظم محمد العبيدي يقول مالوان زوج الروائية المعروفة أجاثا كريستي في مذكراته التي تروي تفاصيل عمله كمنقب عن الآثار في العراق ، أنه عثر أثناء تنقيبه في تلال نينوى في ثلاثينات القرن الماضي على حجرة تحتوي على آلاف الدمى الطينية التي تصور عيناً كبيرة ، ويذكر أنه لم يعرف لماذا تكدس كل هذا العدد وما الذي تعنيه تلك الدمى التي أخذت شكلاً واحداً ،
وبعد تفكير طويل توصل إلى أن هذه الغرفة المطمورة منذ آلاف السنين تعود لكاهن ، وأن هذه الدمى هي لنساء اعتدن على زيارة الكاهن من أجل الإنجاب والتبرك وتقديم الهبات ، هذه الحادثة وغيرها الكثير وفي مختلف العصور اللاحقة لشعب الرافدين وغيره من الشعوب ترتبط بثقافة النذر والأضحيات والمعتقدات المرتبطة بها ، هذه المعتقدات التي كرست لدى الناس مبدأ التضحية ، ومن هنا انطلقت الحناجر : بالروح بالدم نفديك يافلان ...ويمكن الاستعاضة عن فلان بأي مسمى شئت ، وهكذا وجد الحاكمون ومن يمتلكون سلطة ما آلية يمكن من خلالها دفع الناس إلى الهلاك تحت هذه الذريعة أو تلك ، ولماذا لا يفعلون إذا كان الاستعداد لدى الأفراد المحكومين موجوداً أصلاً ؟ وأن فكرة الموت مستولية على عقول أصحابها ولا ينقصهم إلا إعطاؤهم إشارة البدء ليمضوا في إفناء أرواحهم أو ممتلكاتهم من أجل صاحب الفخامة أو القداسة ؟ إن خطورة هذه الثقافة تكمن في تكريس فكرة الموت والخراب لدى شعوب بأسرها ، فلا يتورع الحاكمون عن زج الملايين من الناس في محارق الموت والهلاك ، والمفارقة هنا هو استمرارية عملية الإفناء والتضحية في دائرة يتحرك فيها المضحي والمضحى من أجله بلا هوادة ، وكأن التاريخ يحمل في صيرورته من يشتهي الموت وتعذيب الذات ، ومن يشرف ويتنعم بتلك التراجيدية الإنسانية وربما وجد فيها مجداً شخصياً ، يرفعه إلى مصاف الآلهة ، مثلما تقول إحدى شخصيات الروائي نجيب محفوظ : ليس الغريب اعتقاد المصريين أن فرعون إله ولكن الغريب أن فرعون صدّق نفسه !والنتيجة الطبيعية لشيوع هكذا إشكالية ثقافية اجتماعية هو ضياع الحرية الإنسانية وفقدان الناس فرص الحياة ، لأن المبدأ الذي يحرك الناس حينه يستبطن التضحية والتخلي عن الوجود ، فلا غرابة إذن أن يظهر المقاتلون في البلدان الفقيرة البائسة التي تهيمن عليها هذه الثقافة شبه عراة ، في ملابس عسكرية بالية ووجوه متربة حاملين بنادقهم ، مستعدين للقتال حتى الموت من أجل مشروع يديره حفنة من اللصوص والدجالين ، فهل نتوقع لمثل هكذا مجتمعات أن تفكر بنقل التكنولوجيا أو بناء جامعات علمية ، أو بناء أوطانها ؟ لم تتخل أوروبا عن فكرة خوض الحروب إلا بعد أن دفعت أثماناً باهظة لتلك النزعة المجنونة للتضحية بالناس ، والخطأ الذي وقعت فيه تلك الشعوب كما حدث مع ألمانيا مثلاً ، أصبحت حاضرة في ذاكرة العالم إلى اليوم ، بل إن انقلابة فكرية هائلة حدثت بسبب ذلك ، وانعكست أيضا في الفن والأدب ولاتزال حتى الساعة ترى فيها دروساً أخلاقية وفكرية تستحق الإعادة لتمنع تكرار تلك المآسي الكونية ، بعكس ما يجري في بلدان العالم الثالث التي تجترّ ماضيها في لعبة أزلية ، وتسيطر عليها الأفكار ذات المنحى الأسطوري المروج لمبدأ التضحية وإفناء الذات ، ويمكن لنا هنا أن نسوق مثالاً صارخاً عما تفعله ثقافة حب الحياة ونقارن بين دولة خليجية استثمرت ببساطة ثرواتها النفطية وجعلت من الرخاء الاجتماعي مبدأ لسياستها ، وبلد مثل العراق حكمه نظام يحمل فكرة التضحية من أجل الأمة عن طريق الحروب ودفع الناس إلى الموت ، فماذا كانت النتيجة ؟ لا يمكن للحياة أن تزدهر في بلد يمجد أهله التضحية وإفناء الذات ، وكلما مضى بطل وسمسار يختص بتزويد الراغبين بجواز المرور إلى الهلاك سيولد آخر ، فكما تستجلب الحاجة إلى أية سلعة تجاراً يروجون لها للتكسب، تجلب الحاجة إلى الافتداء والتضحية شخوصاً يحلمون بالصعود على أرواح الناس وتضحياتهم ، ومتى كف الناس عن التفكير في إعطاء أرواحهم وممتلكاتهم لشخص ما أو قوة ما ، سوف يختفي كل الأبطال وسدنة الموت وتزدهر الحياة، فمتى يتوقف الناس عن صنع أصنامهم التي تهيئ لهم المحارق والمقابر الجديدة ويقدمون لها الولاء متوسلين : أميتونا أو زيدوا من بؤسنا وآلامنا !
ثقافة التضحية
نشر في: 2 يوليو, 2012: 06:52 م