اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المنتدى العام > ثقافة التضحية

ثقافة التضحية

نشر في: 2 يوليو, 2012: 06:52 م

ناظم محمد العبيدي يقول مالوان زوج الروائية المعروفة أجاثا كريستي في مذكراته التي تروي تفاصيل عمله كمنقب عن الآثار في العراق ، أنه عثر أثناء تنقيبه في تلال نينوى في ثلاثينات القرن الماضي على حجرة تحتوي على آلاف  الدمى الطينية التي تصور عيناً كبيرة ، ويذكر أنه لم يعرف لماذا تكدس كل هذا العدد وما الذي تعنيه تلك الدمى التي أخذت شكلاً واحداً ،
وبعد تفكير طويل توصل إلى أن هذه الغرفة المطمورة منذ آلاف السنين تعود لكاهن ، وأن هذه الدمى هي لنساء اعتدن على زيارة الكاهن من أجل الإنجاب والتبرك وتقديم الهبات ، هذه الحادثة وغيرها الكثير وفي مختلف العصور اللاحقة لشعب الرافدين وغيره من الشعوب ترتبط بثقافة النذر والأضحيات والمعتقدات المرتبطة بها ، هذه المعتقدات التي كرست لدى الناس مبدأ التضحية ، ومن هنا انطلقت الحناجر : بالروح بالدم نفديك يافلان ...ويمكن الاستعاضة عن فلان بأي مسمى شئت ، وهكذا وجد الحاكمون ومن يمتلكون سلطة ما آلية يمكن من خلالها دفع الناس إلى الهلاك تحت هذه الذريعة أو تلك ، ولماذا لا يفعلون إذا كان الاستعداد لدى الأفراد المحكومين موجوداً أصلاً ؟ وأن فكرة الموت مستولية على عقول أصحابها ولا ينقصهم إلا إعطاؤهم إشارة البدء ليمضوا في إفناء أرواحهم أو ممتلكاتهم من أجل صاحب الفخامة أو القداسة ؟ إن خطورة هذه الثقافة تكمن في تكريس فكرة الموت والخراب لدى شعوب بأسرها ، فلا يتورع الحاكمون عن زج الملايين من الناس في محارق الموت والهلاك ، والمفارقة هنا هو استمرارية عملية الإفناء والتضحية في دائرة يتحرك فيها المضحي والمضحى من أجله بلا هوادة ، وكأن التاريخ يحمل في صيرورته من يشتهي الموت وتعذيب الذات ، ومن يشرف ويتنعم بتلك التراجيدية الإنسانية وربما وجد فيها مجداً شخصياً ، يرفعه إلى مصاف الآلهة ، مثلما تقول إحدى شخصيات الروائي نجيب محفوظ : ليس الغريب اعتقاد المصريين أن فرعون إله ولكن الغريب أن فرعون صدّق نفسه !والنتيجة الطبيعية لشيوع هكذا إشكالية ثقافية اجتماعية هو ضياع الحرية الإنسانية وفقدان الناس فرص الحياة ، لأن المبدأ الذي يحرك الناس حينه يستبطن التضحية والتخلي عن الوجود ، فلا غرابة إذن أن يظهر المقاتلون في البلدان الفقيرة البائسة التي تهيمن عليها هذه الثقافة شبه عراة ، في ملابس عسكرية بالية ووجوه متربة حاملين بنادقهم ، مستعدين للقتال حتى الموت من أجل مشروع يديره حفنة من اللصوص والدجالين ، فهل نتوقع لمثل هكذا مجتمعات أن تفكر بنقل التكنولوجيا أو بناء جامعات علمية ، أو بناء أوطانها ؟ لم تتخل أوروبا عن فكرة خوض الحروب إلا بعد أن دفعت أثماناً باهظة لتلك النزعة المجنونة للتضحية بالناس ، والخطأ الذي وقعت فيه تلك الشعوب كما حدث مع ألمانيا مثلاً ، أصبحت حاضرة في ذاكرة العالم إلى اليوم ، بل إن انقلابة فكرية هائلة حدثت بسبب ذلك ، وانعكست أيضا في الفن والأدب ولاتزال حتى الساعة ترى فيها دروساً أخلاقية وفكرية تستحق الإعادة لتمنع تكرار تلك المآسي الكونية ، بعكس ما يجري في بلدان العالم الثالث التي تجترّ ماضيها في لعبة أزلية ، وتسيطر عليها الأفكار ذات المنحى الأسطوري المروج لمبدأ التضحية وإفناء الذات ، ويمكن لنا هنا أن نسوق مثالاً صارخاً عما تفعله ثقافة حب الحياة ونقارن بين دولة خليجية استثمرت ببساطة ثرواتها النفطية وجعلت من الرخاء الاجتماعي مبدأ لسياستها ، وبلد مثل العراق حكمه نظام يحمل فكرة التضحية من أجل الأمة عن طريق الحروب ودفع الناس إلى الموت ، فماذا كانت النتيجة ؟ لا يمكن للحياة أن تزدهر في بلد يمجد أهله التضحية وإفناء الذات ، وكلما مضى بطل وسمسار يختص بتزويد الراغبين بجواز المرور إلى الهلاك سيولد آخر ، فكما تستجلب الحاجة إلى أية سلعة تجاراً يروجون لها للتكسب، تجلب الحاجة إلى الافتداء والتضحية شخوصاً يحلمون بالصعود على أرواح الناس وتضحياتهم ، ومتى كف الناس عن التفكير في إعطاء أرواحهم وممتلكاتهم لشخص ما أو قوة ما ، سوف يختفي كل الأبطال وسدنة الموت وتزدهر الحياة، فمتى يتوقف الناس عن صنع أصنامهم التي تهيئ لهم المحارق والمقابر الجديدة ويقدمون لها الولاء متوسلين : أميتونا أو زيدوا من بؤسنا وآلامنا !

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بسبب الحروب.. الأمن الغذائي العالمي على حافة الهاوية

اعتقال "داعشي" في العامرية

التخطيط تبين أنواع المسافرين العراقيين وتؤكد: من الصعب شمول "الدائميين" منهم بتعداد 2024

هروب امرأة من سجن الاصلاح في السليمانية

وفاة نائب عراقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

كاريكاتير

كاريكاتير

ميثم راضيميثم راضي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram